آخر تحديث :الخميس-01 مايو 2025-01:27ص

مجلة جرهم


أشباه الموصلات.. عصب التكنولوجيا والـصراع العـالمـــي

أشباه الموصلات.. عصب التكنولوجيا والـصراع العـالمـــي

الأحد - 13 أبريل 2025 - 10:25 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. محمد العرب مدير مركز العرب للرصد والتحليل

أشباه الموصلات ليست مجرد قطع صغيرة في الأجهزة الإلكترونية، بل هي العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة، تُستخدم في صناعة الهواتف الذكية، والحواسيب، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والأنظمة العسكرية، وحتى السيارات الكهربائية، مع تزايد الاعتماد عليها أصبحت هذه الصناعة محورًا لصراع عالمي يتجاوز الاقتصاد، ليصل إلى السياسة والجغرافيا.
في عام 2021، بلغت قيمة سوق أشباه الموصلات حوالي 553 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتجاوز تريليون دولار بحلول 2030، مدفوعة بالطلب المتزايد على التقنيات المتطورة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والسيارات الكهربائية، لكن هذا النمو الكبير جعل الصناعة ساحة معركة بين القوى العالمية الكبرى.
الهيمنة والاستقلال التكنلوجي
تهيمن آسيا على صناعة أشباه الموصلات، حيث تسيطر تايوان وكوريا الجنوبية على نصيب الأسد من الإنتاج، حيث تنتج هاتان الدولتان فقط حوالي 80% من أشباه الموصلات الأكثر تطورًا، ما يمنحهما نفوذًا هائلًا في الاقتصاد العالمي وذلك عبر:
• شركة TSMC التايوانية، أكبر شركة في العالم لتصنيع أشباه الموصلات، تستحوذ على 54% من السوق العالمي للشرائح المتطورة.
• شركة سامسونج الكورية الجنوبية تحتل المركز الثاني بنسبة 25% من السوق.
وفي إطار التنافس الأمريكي الصيني نحو الاستقلال التكنولوجي بعيدًا عن الهيمنة الآسيوية فقد خصصت الولايات المتحدة الأمريكية عبر “قانون الشرائح” لعام 2022 م 52 مليار دولار لتعزيز صناعتها المحلية وتقليل الاعتماد على الموردين الآسيويين، كما جعلت شركات كبرى مثل إنتل وإنفيديا تستثمر في تطوير مصانع جديدة داخل البلاد.
بدورها ضخت الصين استثمارات تُقدر بـ 150 مليار دولار منذ 2014 بهدف بناء صناعة وطنية وتقليل الاعتماد على تايوان وكوريا الجنوبية، لكن العقوبات الأمريكية حدّت من وصولها للتكنولوجيا المتطورة.
الأمر الذي تتضح من خلاله الجهود الأمريكية والصينية في السعي نحو الاستقلال التكنولوجي مع وجود لاعبين صاعدين في هذا المضمار كأوروبا، فبينما تركز الولايات المتحدة وآسيا على التفوق، تسعى أوروبا للانضمام إلى السباق، حيث أعلن الاتحاد الأوروبي عن خطط لاستثمار 43 مليار يورو في تطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية بحلول 2030.
سلاح التكنولوجيا
تعتبر أشباه الموصلات بالنسبة في الأنظمة الدفاعية والعسكرية مهمة جدًا حيث تستخدم الشرائح المتقدمة في تصنيع:
- الصواريخ الذكية: تعتمد على أشباه الموصلات في التوجيه والدقة.
- أنظمة الدفاع الجوي: مثل نظام “ثاد” الأمريكي، الذي يعتمد على معالجات عالية الأداء.
- الطائرات بدون طيار: تتطلب شرائح متقدمة لمعالجة البيانات وتحليلها في الوقت الحقيقي.
ونتيجة لذلك يبدو التنافس الأمريكي الصيني في السباق التكنولوجي لتحقيق التفوق العسكري واضحًا، حيث تعتمد الولايات المتحدة على تفوقها في تطوير أشباه الموصلات لدعم أنظمتها العسكرية، بينما الصين -ورغم استثماراتها الهائلة- تعاني من صعوبة في الوصول إلى الشرائح المتطورة بسبب القيود الغربية، ومن الأمثلة العملية على ذلك حظر بيع الشرائح المتطورة لشركة (هواوي”) الصينية حدّ من قدرتها على تطوير تقنيات 5G المتقدمة.
وهو الأمر الذي تم التصرف به مع روسيا حيث كشفت العقوبات الغربية على روسيا خلال الحرب في أوكرانيا أهمية أشباه الموصلات كعنصر استراتيجي، حين منعت العقوبات وصول الشرائح إلى روسيا، مما أثر بشكل مباشر على صناعاتها الدفاعية والتكنولوجية.
توقعات
ونتيجة للدور الذي تلعبه أشباه الموصلات كأداة للتحكم بالسوق العالمي فقد بلغ الإنفاق العالمي في 2022، على البحث والتطوير في أشباه الموصلات حوالي 68 مليار دولار، ومع النمو الهائل للصناعة تشير التوقعات إلى نمو الطلب على الشرائح المتقدمة بنسبة 50% بحلول 2030.
وتفرض تايوان وكوريا الجنوبية هيمنتهما في السيطرة على السوق، الأمر الذي يمنحهما نفوذًا اقتصاديًا هائلًا، أما في حالة حدوث أي صراع جيوسياسي في المنطقة، مثل تصاعد التوتر بين الصين وتايوان، قد يسبب ذلك -نوعًا ما- تعطلًا في الاقتصاد العالمي، حيث تستورد الصين حوالي 60% من احتياجاتها من أشباه الموصلات، ما يجعلها عرضة للضغط الاقتصادي، الموضوع ذاته سيتسبب أيضًا في الضغط على الصناعات الأخرى مثل:
- السيارات الكهربائية:
تحتاج سيارة كهربائية واحدة إلى حوالي 3000 شريحة إلكترونية، مقارنة بـ 1500 شريحة فقط للسيارات التقليدية.
- الذكاء الاصطناعي:
تتطلب أنظمة مثل “تشات جي بي تي” مئات الآلاف من الشرائح المتطورة لتشغيلها بكفاءة.
نظرة مستقبلية
يمثل الابتكار في أشباه الموصلات أمرًا مهمًا حيث تتمثل تقنيات المستقبل القادمة في:
- الشرائح الكمية:
تمثل نقلة نوعية في الحوسبة المتطورة.
- الجرافين:
مادة مستقبلية تُستخدم لتحسين أداء الشرائح وتقليل استهلاك الطاقة.
- الطباعة النانوية:
تقنية تُتيح تصنيع شرائح بحجم أصغر وأداء أعلى.
وتعتبر أهم تحديات ذلك الابتكار هي ارتفاع تكلفة البحث والتطوير، حيث تبلغ تكلفة بناء مصنع حديث لإنتاج أشباه الموصلات حوالي 20 مليار دولار، إلى جانب تعقيد التكنولوجيا؛ ذلك أن الشرائح المتطورة تتطلب عمليات تصنيع دقيقة للغاية تصل إلى مستوى 5 نانومتر أو أقل.
إذن في قلب الصراع الجيوسياسي العالمي، أصبحت أشباه الموصلات محورًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن النفط في القرن العشرين، إذ تحدد السيطرة على هذه الصناعة ملامح النفوذ السياسي والاقتصادي مستقبلًا، وهكذا أصبحت الشرائح الإلكترونية سلاحًا غير مرئي في معركة الهيمنة العالمية، حيث تمثل تايوان النقطة الأكثر سخونة في هذا الصراع، مع سيطرة شركة TSMC التايوانية على حوالي 63% من إنتاج أشباه الموصلات عالميًا، ولهذا سيُعد أي تعطيل لصناعتها تهديدًا مباشرًا للاقتصاد العالمي.
في حين تعتبر الصين أن تايوان جزءًا من أراضيها وتعمل على تعزيز نفوذها في المنطقة، وهو ما يهدد استقرار الإمدادات العالمية للشرائح، وقد يتسبب أي تصعيد عسكري في هذه المنطقة في شلل صناعات رئيسية حول العالم، بما في ذلك الهواتف الذكية، والسيارات الكهربائية، وحتى الأنظمة العسكرية.
استراتيجية الاحتواء
في مواجهة النفوذ الصيني المتزايد، تتبنى الولايات المتحدة وحلفاؤها استراتيجية احتواء، تعتمد هذه الاستراتيجية على تعزيز التعاون مع الدول المنتجة للشرائح، مثل تايوان وكوريا الجنوبية، لضمان استمرارية الإمدادات ومنع سيطرة الصين على السوق، وتمثل العقوبات جزءًا أساسيًا من هذه السياسة، حيث تسعى واشنطن إلى تقييد وصول الصين إلى الشرائح المتطورة والتقنيات اللازمة لتطويرها، ففي عام 2023، أصدرت الولايات المتحدة قرارًا بمنع تصدير الشرائح المتقدمة والتقنيات المرتبطة بها إلى الصين، هذا الحظر أدى إلى إبطاء قدرة الصين على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي والحوسبة الفائقة، مما أثر بشكل كبير على تنافسيتها التكنولوجية، وتشير التقديرات إلى أن هذه العقوبات قد تؤخر الصين لعدة سنوات في سباق التكنولوجيا المتطورة، ما يمنح الغرب وقتًا إضافيًا لتعزيز هيمنته.
وهكذا لا يُعد الصراع حول أشباه الموصلات نزاعًا اقتصاديًا فقط، بل هو معركة استراتيجية تعيد رسم موازين القوى العالمية، ومع تصاعد التوترات، ستظل هذه الشرائح الصغيرة في قلب المنافسة بين القوى العظمى، مما يجعلها أحد أهم أسلحة العصر الحديث.
أين العرب؟!
رغم الأهمية الاستراتيجية لأشباه الموصلات، يغيب العرب تمامًا عن هذه الصناعة، وتستورد الدول العربية جميع احتياجاتها من الشرائح، ولا تملك بنية تحتية لتصنيعها، ويجعل غياب الاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجيا دخول العرب في هذا المجال شبه مستحيل حاليًا، وتتمثل فرص الدخول إلى هذا المضمار في:
- الطاقة المتجددة:
مع توافر مصادر طاقة منخفضة التكلفة، يمكن للدول الخليجية جذب استثمارات لبناء مصانع متطورة.
- الشراكات الدولية:
التعاون مع الشركات العالمية قد يكون نقطة البداية لبناء قاعدة صناعية.
الخاتمة
أشباه الموصلات ليست مجرد عناصر تقنية في الأجهزة الإلكترونية، بل أصبحت المحرك الأساسي لتطور العالم الحديث. السيطرة عليها تعني الهيمنة على المجالات العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، مما يجعلها أحد أهم مفاتيح موازين القوى العالمية في القرن الحادي والعشرين.
في المجال العسكري، تعتمد الأنظمة الدفاعية والهجومية الأكثر تطورًا على الشرائح الإلكترونية المتقدمة، ما يجعل التفوق في هذه الصناعة شرطًا أساسيًا للحفاظ على الأمن القومي. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن التحكم في إنتاج أشباه الموصلات يفتح أبوابًا ضخمة للابتكار الصناعي، حيث تُعتبر هذه الشرائح القلب النابض للتقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والسيارات الكهربائية.
بينما تخوض الولايات المتحدة والصين معركة شرسة للسيطرة على هذه الصناعة، لا يزال العالم العربي غائبًا تمامًا عن هذا المشهد. مع توافر الموارد الطبيعية والبشرية، يمكن للدول العربية أن تخطو خطوات جريئة للدخول في هذا السباق، سواء عبر استثمارات استراتيجية في البحث العلمي أو من خلال شراكات مع اللاعبين الرئيسيين في الصناعة.
اليوم، تُرسم ملامح المستقبل على رقائق صغيرة بحجم بضعة نانومترات. من يمتلك التقنية والمعرفة لإنتاج هذه الرقائق، سيمتلك زمام القيادة في عالم يتجه أكثر فأكثر نحو الاعتماد على التكنولوجيا، لذلك ليس للعرب رفاهية الانتظار؛ بل يجب عليهم الانضمام إلى هذا السباق الحاسم لضمان دور فاعل في تشكيل مستقبل العالم. السيطرة على أشباه الموصلات ليست خيارًا، بل ضرورة استراتيجية■