آخر تحديث :الخميس-01 مايو 2025-01:27ص

مجلة جرهم


العبـقــــــــــــريـة.. قــدرات موروثــة أم موهـبــة تحتـاج الإهتمــام؟

العبـقــــــــــــريـة..    قــدرات موروثــة أم موهـبــة تحتـاج الإهتمــام؟

الخميس - 01 مايو 2025 - 01:20 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. سوزان حامد باحثة وأكاديمية مصرية

ماذا تعني العبقرية؟
إننا نطلق صفة عباقرة على الأشخاص فائقي الذكاء أو الموهوبين والمتميزين في مجالاتهم، أو أولئك الذين حققوا نجاحات وإنجازات عظيمة في خدمة البشرية، كالمبدعين في مجالات العلوم والفلسفة والرياضيات والأدب والشعر والقصة والفنون والمجالات المختلفة.. وتكاد تجمع المعاجم العربية على أن كلمة "عبقري" تُطلق على الشخص الذي يمتلك قدرة عقلية استثنائية تؤهله للابتكار والإبداع، و"العبقرية" هي الصفة أو القدرة التي تميز هذا الشخص وتجعله يتفوق على غيره في مجاله.
وفى اللاتينية القديمة تعني الروح الحامية أو الحارسة التي تلازم المرء من المهد إلى اللحد، ثم استخدمت في العصور التالية لتعبر عن الفرد الذي تبدو عليه قدرات استثنائية عقلية أو إبداعية سواء كانت هذه القدرات فطرية أو مكتسبة أو كلاهما.
مقاييس ومعايير
تعتمد درجة العبقرية بموجب المقاييس العلمية على مجموعة من المعايير تشمل الذكاء الاستثنائي، الإبداع، والإنجازات الكبيرة والاستثنائية في مجالات معينة. وفي حين أن الذكاء المرتفع ليس كافيًا بمفرده لتحديد درجة العبقرية إلا أنه توجد بعض المؤشرات واختبارات الذكاء التقليدية مثل "اختبار ستانفورد- بينيه أو اختبار WAIS" حيث يُعتبر الشخص بموجبها "عبقريًا" عندما تتجاوز درجة ذكائه 140 أو 145، وغالبًا ما ترتبط العبقرية بالإبداع، مثل القدرة على إيجاد حلول غير تقليدية أو تطوير أفكار جديدة. يتم قياس الإبداع باستخدام اختبارات مثل اختبار تورانس للإبداع، وتقاس العبقرية أيضا بالإنجازات الاستثنائية في مجال معين، كإنجازات الخوارزمي وأينشتاين وابن النفيس وغيرهم من العلماء في مختلف المجالات، وتتنوع العمليات المعرفية ويتعقد الجهاز العصبي لدى العباقرة كما تتعقد شخصياتهم ويظهر إبداعهم في شتى المجالات، وقد اهتم عدد من علماء النفس بدراسة العمليات العقلية، وكيف تتوالد الأفكار، وبينوا أن التفكير يتضمن كل نشاط عقلي يساعد على صياغة المشكلة وحلها واتخاذ القرار أو البحث عن المعنى.
ويرى العالم "جان بياجيه" -صاحب نظرية النمو المعرفي في الذكاء- أن الهدف الأساس لعملية التربية في العصر الحالي هو تخريج أفراد عباقرة قادرين على فعل أشياء جديدة -وليس على تكرار ما فعلته الأجيال السابقة- بحيث يكونون قادرين على الإبداع والكشف بصفة دائمة عن الجديد.
الذكاء والعبقرية
هناك خلط واضح بين الذكاء والعبقرية، فالذكاء هو جزء من العبقرية وليس العكس، بحيث يمكن القول إن كل عبقري ذكي وليس كل ذكي عبقريًا، أي إن العبقرية ترتبط بالأداء -السلوك العبقري- والتفاعل بين القدرة الابتكارية مع القدرة على إنجاز المهام المطلوبة.
ويربط المتخصصون التفوق العقلي بالقدرات العقلية التي تنمو بشكل مقصود والمهارات المتعلقة بالخبرة في أيٍّ من مجالات النشاط الإنساني، ويمكن تحويل الاستعدادات العقلية الفطرية العبقرية إلى أداء متميز "تفوق عقلي" في مجال معين في -وعبر- التحصيل الدراسي والتدريب عن طريق السمات الشخصية مثل الاستقلالية والثقة بالنفس والواقعية، والمثابرة، والمبادأة، والميول، والوسط الاجتماعي المحيط بالشخص العبقري.
ويرى البعض أن العلاقة بين الذكاء وسمات الشخصية لا يمكن إنكارها، وأن استغلال المواهب والقدرات العقلية لدى الفرد يحتاج إلى دفعة من الجوانب المختلفة للشخصية.
وأن العبقرية والموهبة يمكن اعتبارهما مصطلحًا واحدًا، لكن يأتي اختلافهما في المستوى حيث تشير صفة العبقري إلى الشخص الذي يحقق إنجازات عظيمة، بينما يمتلك الموهوب قدرة عقلية عالية جدًا وتختلف باختلاف المجال الإبداعي؛ وهو بذلك يحتاج الرعاية والاهتمام لما من شأنه مساعدته في تحقيق إنجازات عبقرية عظيمة حسب المجال الذي تكمن فيه موهبته، إذ توجد فروق في طبيعة العبقرية حسب كل مجال.
وبحسب تعريفات معجم إكسفورد تُظهر الموهبة الفطرية -من الله- إحدى معاني العبقرية، في حين توضح الدراسات أن العبقري هو الفرد الذي يتميز بالنمو العقلي السريع فيفوق عمرُه العقلي عمرَه الزمني، ويصبح الفرد متقدمًا على أقرانه من حيث القدرة على التعلم والتدريب وإدراك العلاقات والتفوق التحصيلي في أحد المجالات.. ومن هنا فالعبقرية استعداد عقلي فطري للتفوق في أحد المجالات العلمية أو الاجتماعية أو الأدبية أو غيرها.
قدرات واهتمام
ومن خلال استقراء سير ونماذج كثيرة حضارية مختلفة نلاحظ أن الاهتمام بالإنسان كان له دور كبير في صناعة هذه الحضارات، وأن الاستثمار في الإنسان هو أهم الاستثمارات على الإطلاق، وقد نجد من يمتلك القدرات في بيئات محبطة ولكن لديه الإصرار على الاستثمار في نفسه إن توافرت له الإمكانات، أو تحدي الظروف والتغلب على البيئات الصعبة حتى يتفاجأ المُحبِطون بإنتاجيته العبقرية في مجالٍ ما، ومن بعض خصائص الشخص العبقري: أنه سريع التعلم، يتميز بارتفاع مستوى الذكاء ومستوى التحصيل، والإبداع، ويحب الاطلاع، ولديه رغبة قوية في المعرفة، وحصيلة لغوية عالية وذاكرة قوية، ويستطيع أن يحل المشكلات التي تقابله ببدائل متعددة من الحلول، يهتم بالمستقبل، ويتفوق عن أقرانه في غزارة الأفكار والعمليات العقلية، كثير التأمل، يتميز بالمنطق والحدس، ويحب الأنشطة، ولا يستسلم للإحباط.
ومن خلال استقراء حياة كثير من العباقرة العرب وغير العرب عبر التاريخ يتجسد لنا مزيجٌ من الموهبة الفطرية والبيئة المحفزة والإرادة الصلبة لتحقيق الإنجازات؛ كعوامل مهمة في صناعة العبقرية، ففي التاريخ الإسلامي برز علماء وعباقرة كابن الهيثم وابن النفيس والخوارزمي وابن خلدون وغيرهم، قدّموا للبشرية إسهامات رائعة في مجالات متنوعة مثل الطب والفلسفة والرياضيات وعلم الاجتماع والكيمياء، وأثبتوا أن العبقرية ليست مجرد هبة فطرية، بل هي قدرة على التفكير الإبداعي والإصرار على مواجهة التحديات، الأمر الذي يمكننا إسقاطه على العديد من العباقرة خلال العصر الحديث، ويتضح من خلاله أيضًا أن العبقرية عقل ذكي وإصرار على التفوق وعمل جاد وبيئة محفزة وصناعة واهتمام.
الإصرار والبيئة المحفزة
كان معلمو أينشتاين يعتقدون أنه غير قادر على التعلم وأنه بطيء الفهم ولم تظهر مؤشرات واضحة على العبقرية في مرحلة طفولته، لكنه لم يستسلم لتلك التقييمات، واستمر في تطوير نفسه، إلى جانب أن حبه للرياضيات والفلسفة زاد من التزامه بالبحث عن حلول للأسئلة العلمية التي كانت تثير فضوله، الأمر الذي أسهم بشكل كبير في الوصول إلى نظرية النسبية، وقد جاء اختراع المصباح الكهربائي، بنفس إصرار أينشتاين حيث كانت من تقييمات معلمي توماس أديسون في المدرسة أنه طالب ضعيف ولا يصلح للتعلم، بل تم طرده من المدرسة بسبب انخفاض مستواه الأكاديمي، لكنه كان مصممًا على ابتكار المصباح الكهربائي، ورغم فشله المتكرر في تجاربه، كان يرد على من ينتقده قائلاً: "لم أفشل، بل وجدت 10،000 طريقة لا تعمل"، وبفضل هذا الإصرار أصبح أديسون أحد أعظم المخترعين في العالم، وأحدث ثورة في العديد من الصناعات.
أديسون كان قد سبقه إلى نفس التجربة العالم العربي ابن الهيثم، الذي واجه شكوك العلماء في نظرياته حول الضوء والبصريات، واستمر في إجراء التجارب حتى أثبت صحة أفكاره، وهو العامل الذي جعله يحقق إنجازات غير مسبوقة في مجال البصريات.
وبالمقابل برز علماء وعباقرة آخرون بقدرات فطرية وعقلية منذ صغرهم أفادوا بها البشرية ومكنتهم من التفوق في عدد من المجالات ومن أمثال هؤلاء: العالم العربي ابن سينا، الذي أظهر قدرة كبيرة وسريعة على حفظ وتعلم العلوم منذ طفولته كما أظهر اهتمامًا مبكرًا بالفلسفة والطب، وعلى نفس المنوال، برز الخوارزمي بقدرات هائلة أسهمت في اختراعه للجبر وابتكاره مفاهيم رياضية جديدة، إلا أن اختراع الخوارزمي الجبر قد حفزته البيئة حيث كانت بغداد في العصر العباسي شاهدة على اهتمام كبير بالعلوم والمعرفة.
ومن الأمثلة الحديثة على الاهتمام ودور البيئة المحفزة في صناعة العباقرة العالم المصري أحمد زويل، الذي نشأ في بيئة غير مواتية علميًا، بسبب صعوبات العيش في مصر بعد ثورة 1952، لكن زويل أصر على متابعة حلمه في مجال الكيمياء، وانتقل إلى الولايات المتحدة، وهناك تمكّن من تحقيق اختراقات علمية هامة في عالم الكيمياء، بفضل الدعم الأكاديمي والمرافق التي سمحت له باكتشاف "كيمياء الفيمتو"، حيث قام زويل بتطوير تقنية التصوير باستخدام الليزر التي مكنت العلماء من التقاط صور لعمليات التفاعل الكيميائي في الزمن الفائق السرعة (الفيمتو ثانية)، وهو جزء من مليار من الثانية. هذا الاكتشاف غير طريقة دراسة التفاعلات الكيميائية وساهم في تقدم العلوم الكيميائية بشكل كبير، الأمر الذي أهَّله للفوز بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1999.
وختامًا
نجد أن الإنسان هو حجر الزاوية في أي بناء حضاري أو تقدم تكنولوجي، وهو الاستثمار الناجح على مختلف المستويات، سواء من خلال قدراته أو إصراره أو موهبته في ظل وجود البيئة المحفزة والاهتمام، وهكذا فإن العباقرة الذين خلدهم التاريخ لم يكن لديهم فقط قدرات فطرية، بل أيضًا كان لديهم إصرار على تحقيق التفوق، وبيئة خصبة للرعاية والتطوير، مما مكنهم من تحقيق إنجازات غير مسبوقة، وخلاصة الكلام أن الرعاية والاهتمام لهما دور أساسي في صناعة العباقرة، ولمن أراد البحث سيجد أن بعض العباقرة -بل الكثير منهم حديثًا- لم يحققوا نجاحاتهم فقط بفضل موهبتهم، بل بسبب الدعم المتواصل والإرادة التي تم تحفيزها بفضل الأشخاص والبيئة والأسرة الذين آمنوا بقدراتهم، إلى جانب وجود الدولة في تقديم التوجيه والرعاية والاهتمام ■