آخر تحديث :الأربعاء-24 سبتمبر 2025-11:47م

مجلة جرهم


اليمين والصهيونية.. تيارات التطرف وخيارات السلام

اليمين والصهيونية.. تيارات التطرف وخيارات السلام

الأربعاء - 24 سبتمبر 2025 - 11:47 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د/ أنور محمود زناتي جامعة عين شمس - مصر

لم يعد من الممكن قراءة المشهد السياسي والديني في العالم دون الوقوف عند تأثيرات التيارات الدينية المتطرفة التي نشأت في قلب الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، فمنذ بدايات القرن العشرين، أخذت هذه الحركات تؤدي أدوارًا متعاظمة في رسم السياسات الإقليمية والدولية، وصولًا إلى لعب أدوار حاسمة في صراعات الشرق الأوسط.
وقد شهد القرن العشرون دعمًا سياسيًّا ودينيًّا وثقافيًّا للتيارات اليهودية والمسيحية المتطرفة مكّنها من التأثير في قرارات سيادية على المستوى الدولي، لا سيما في ملف القضية الفلسطينية، وتحديدًا في ظل مشروع الحركة الصهيونية الهادف إلى إقامة دولة يهودية تمتد من النيل إلى الفرات.
وانحازت لأفكارهما القوى الكبرى خاصة بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في مقابل التصدي الكامل من تلك القوى مع التيارات الإسلامية بكل أنواعها.

التيارات اليهودية المتطرفة:
نشأت الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر حركة علمانية تدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود، لكنها سرعان ما استعانت بالرموز الدينية لتعزيز شرعية مشروعها. ومع قيام دولة الكيان عام 1948، برزت تيارات يهودية متطرفة، مثل "غوش إيمونيم " و"شاس" و "كاخ" و"الحريديم" و"يهدوت هتوراه"، و"الليكود"، التي تزاوج بين العقيدة الدينية والمشروع القومي.
وتعتقد هذه التيارات أن اليهود شعب مختار ذو رسالة إلهية حصرية، وأن أرض فلسطين "وعد إلهي"، وأن إقامة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات واجب ديني وقومي، وهو ما برر عمليات الاستيطان والتهجير القسري والعنف ضد الفلسطينيين.
وشهدت فترة ما بعد حرب 1967 منعطفًا حاسمًا في فكر الحركات المتطرفة، حيث اعتبرت احتلال الضفة الغربية وشرقي القدس والجولان بمثابة "تحقيق للوعد الإلهي"، وأخذت تعمل على تكريس الاستيطان بوصفه فريضة دينية. برزت شخصيات مثل مائير كهانا، الذي دعا إلى ترحيل الفلسطينيين وإقامة "إسرائيل الكبرى"، فيما ظهر تيار الصهيونية الدينية الذي يرى في الحاخامية مرجعية سياسية ودينية ملزمة.

التيارات المسيحية الصهيونية:
نشأت الصهيونية المسيحية في أوساط البروتستانتية الإنجيلية في بريطانيا وأمريكا خلال القرن التاسع عشر، مع اعتقاد لاهوتي بأن عودة اليهود إلى فلسطين شرط لعودة المسيح، وفي القرن العشرين، تبنتها تيارات يمينية متطرفة في الولايات المتحدة مثل “المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل” و”صهيونية بلا حدود”، وقد وجدت في قيام إسرائيل تحقيقًا لنبوءات العهد القديم. ودعمت هذه التيارات الاحتلال والاستيطان، ووفرت غطاءً دينيًّا للمشروع الصهيوني، وقد كانت ذات تأثير في السياسة الأمريكية، خصوصًا عبر شخصيات، مثل بات روبرتسون وجيري فالويل، ومن ثم فقد دعمت إدارات أمريكية متعاقبة سياسات التوسع الإسرائيلي ورفضت أي ضغوط جادة لوقف الاستيطان.

الممارسات الصهيونية لتحقيق “إسرائيل الكبرى":

- الاستيطان والتهويد:
تبنّت الحكومات الإسرائيلية بدعم من الحركات المتطرفة خطة تهويد القدس والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، وشنّت حملات منظمة ضد السكان العرب شملت الطرد، وهدم المنازل، والسيطرة على المقدسات، وفرض وقائع جديدة على الأرض. وتورطت حركات مثل “كاخ” و”تاغ محير” في ارتكاب جرائم بحق الفلسطينيين، أشهرها مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994. كما أُنشئت عصابات سرّية لاستهداف القرى العربية في النقب والجليل. وفي الوقت نفسه، جُنِّد حاخامات متشددون لإصدار فتاوى تشرعن قتل غير اليهود.
وبرزت ممارسات جماعات مثل "تدفيع الثمن" و"شبيبة التلال" و"الليكود" و"الصهيونية الدينية" في إحراق منازل الفلسطينيين والمساجد والكنائس.
وسعت الصهيونية المتطرفة إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا، وفرض سياسة الأمر الواقع بالاستيطان، والتهويد الممنهج للقدس، وتشريع قوانين عنصرية، مثل "قانون القومية"، واستغلال الدعم المسيحي الغربي لتمرير قرارات دولية لصالح إسرائيل.

- المشيحانية:
ومن أخطر تحالفات المسيحية – الصهيونية ما عرف باسم العقيدة المشيحانية (Messianism) وهي الإيمان بـمجيء "المسيح المخلِّص" الذي سيقيم مملكة الله على الأرض، ويكون فيها اليهود سادة العالم في حين تكون شعوب الأرض الأخرى عبيدًا عندهم، وهي عقيدة مرتبطة بقيام "دولة إسرائيل"، فالمشيحانية ترى ضرورة تجميع اليهود من كل بلاد الشتات في فلسطين شرطًا أساسيًّا لعودة المسيح المخلِّص ليخوض معركة "هرمجدون"، ويقاتل كل أعداء اليهود ويقهرهم ويقيم لهم مملكة تدوم ألف سنة تسمى "الفردوس الألفي".
وتلاقت أفكار تلك العقيدة مع أفكار المسيحية البروتستانتية، ونشأت ما يعرف بالمسيحية الصهيونية التي تؤمن بأن وجود إسرائيل أمر حتمي لتحقيق النبوءات، وأن عودة المسيح تتطلب "عودة اليهود إلى الأرض المقدسة"، وبناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، وأن كل دعم لإسرائيل هو "خدمة لإرادة الرب". ومن هنا ترى المشيحانية أن دعم إسرائيل وتسريع النبوءات واجب ديني على المسيحيين.
ولعل الإشكالية الكبرى التي ترتبط بتلك الفكرة المزعومة أنها تجعل قدوم هذا المشيح في أيام تعج بالفوضى والدماء والفتن في العالم، وهو ما يشكل التهديد الأكبر الذي يواجه العالم؛ إذ إن عودة المخلِّص اليهودي لا تتم إلا وسط الدماء والضحايا مهما كانت أعدادهم، وهو ما نراه اليوم من تطبيق واضح لتلك العقيدة المزعومة في أرض فلسطين لإعداد العالم لعودة المخلِّص وإقامة المملكة الألفية والفردوس الأرضي.

المشيحانية والقرار الأميركي:
هيمنت أفكار المشيحانية على صناع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، وتؤدي دورًا كبيرًا في تشكيل هويتها، ورأى البروتستانت الإنجيليون أنه على الولايات المتحدة الأمريكية مساندة اليهود بكل قوة للسيطرة الكاملة على كل الأراضي الفلسطينية، فأصبحت الإبادة للعرب لديهم مهمة دينية، وظهرت في شكل الإيمان المشيحاني برب توراتي لا يعرف التسامح، فهو سريع الغضب يقول لموسى: "والآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم" (الخروج 32/1)، وهو رب الحرب: "الرب رجل الحرب" (الخروج 15: 3)، وهو إله المجازر والإبادات الجماعية: "فقال الرب امحوا عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت أني عملتهم" (التكوين 6: 7)، وهو لا يعرف صلحًا ولا سلامًا أو مسالمة، ذلك أنه يقول: "وإذا رفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدنية، كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك" (تثنية 20: 13).
وتعد المشيحانية وصِلتها بـ صناعة القرار في الولايات المتحدة أحد أخطر التأثيرات الدينية في السياسة الخارجية، خصوصًا تجاه الشرق الأوسط, فالمشيحانية ليست فقط تيارًا دينيًّا، بل أصبحت رافعة ضغط سياسي تؤثر في قرارات كبرى في السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا ما يخص دعم إسرائيل. وأما التأكيد على أنه لا يوجد حقٌ للفلسطينيّين في أراضيهِم، فهو الوعد الحتمي الذي ارتضاه الله لليهود وفق العقيدة التّوراتيّة.
وظهر تحالف سياسي – ديني قوي داخل أروقة صنع القرار الأمريكية، فأغلب السياسيين هناك يعتمدون على أصوات الإنجيليين الذين يتبنون الفكر المشيحاني، لذلك يتبنّون سياسات تخدم "النبوءات التوراتية" جزءًا من أجندة داخلية.
من هنا نجد أغلب قرارات صناع القرار في أمريكا نابعة من إلهام ديني، وهي فكرة محورية لدى المسيحية الصهيونية، واستخدم عديد منهم في خطاباتهم لغة توراتية إنجيلية تتناغم مع خطاب المسيحية الصهيونية في كثير من المواقف الخطيرة، وظهر بوضوح أن أغلب الرؤساء الأمريكيين تبنوا خطابًا يتماهى مع المسيحية الصهيونية، وهذا ما جعل سياساتهم الخارجية، خاصة تجاه إسرائيل، تأخذ طابعًا دينيًّا مشيحانيًّا.
نتج عن ذلك توجيه القرارات المصيرية نحو مساندة إسرائيل دون قيد، وتفسير التطورات الدولية من منظور "نبوءاتي"، وليس واقعيًّا سياسيًّا، والدخول في حروب باسم "الخير ضد الشر"، منها قول جورج بوش الابن (2001-2009) ذات يوم: إنها الحروب الصليبية وإن الله قد كلّفه بمحاربة "الشر" و"إحلال السلام" في الشرق الأوسط، ودعم إسرائيل بلا شروط، ورفض الضغط الجِدّي على إسرائيل في ملف المستوطنات، كما أغلق باب التسوية عندما وصف عرفات بأنه "عقبة أمام السلام"، كما أعطى إسرائيل ضوءًا أخضر لتوسيع الاستيطان، وأعاق إقامة دولة فلسطينية عبر تبنّي "خارطة الطريق" بدون ضمانات.
كما وجدنا دونالد ترامب ينقل السفارة الأمريكية إلى القدس، عام 2018. ووصفه بعض القساوسة بـ "كورش الجديد" الذي يحقق مشيئة الرب، وسُرَّ ترامب بذلك كثيرًا! وكل قراراته تدعم إسرائيل دعمًا مطلقًا.
كما أعلن مايك بنس –نائب ترامب في ولايته الأولى، وهو إنجيلي مشيحاني- أمام الكنيست: "أن إسرائيل لم تُخلق من خلال الأمم المتحدة، بل من خلال وعد إلهي قديم"، وشجّع ترامب على نقل السفارة إلى القدس، وقال في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2018: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس كان لحظة إنجيلية!
كما أن كثيرًا من صناع القرار الأمريكان يؤمنون بأن السياسة يجب أن تسير وفق خطة إلهية، وأدخلوا مفاهيم "نهاية الزمان" في السياسة؛ فقد آمن رونالد ريغان (1981–1989) بالنبوءات الإنجيلية، وظهرت لديه رؤى "نهاية الأيام"، وتحدث عن حرب "هرمجدون" وحدوثها في الشرق الأوسط، وصرح قائلًا: أنا مؤمن بأننا نقترب من نهاية الزمن، وفقًا لسفر الرؤيا.
ووجدنا وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس (2005-2009) تُكثر من الإشارات إلى "الخلاص الإلهي"، و"قدر الأمة".
كما صرّحت نيكي هايلي –سفيرة أمريكا في الأمم المتحدة-: سنمنع أي قرار أممي ضد إسرائيل لأنها تمثّل قيمنا. وعطّلت أي محاولة دولية -كعادة كل السفراء الأمريكان في الأمم المتحدة- لمساءلة إسرائيل عن جرائمها في غزة والضفة باستخدام الفيتو ضد أي محاولة لإدانة الاستيطان أو العدوان. وهو الأمر الذي يشجع إسرائيل على المضي قدمًا في سياسات الاحتلال والتهويد والتهجير والإبادة الجماعية دون خشية من العقوبات.

تأثيرات خطيرة
نتج عن ذلك دعم غير مشروط لإسرائيل قائم على صناعة قرارات غير عقلانية، أدت إلى انتهاكات مستمرة للقانون الدولي والحقوق الإنسانية، مستندة إلى تأويلات دينية، كما نتج عنها تهميش الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة في وطنهم، لأن وجودهم يتعارض مع "النبوءة" حسب الفكر المشيحاني.
ومن هنا تعد المشيحانية من أخطر الأيديولوجيات التي ينبغي أن يواجهها العالم الحر كله بصفة عامة، والعالم العربي بصفة خاصة في الوقت الراهن، لا سيما مع محاولات أصحاب الاتجاهات اليمينية بين اليهود المعاصرين تطبيقَ الأفكار المشيحانية على أرض الواقع بكل ما تحمله من تهديدات جد خطيرة لكل البشرية.

تيارات التشدد الإسلامي:
ظهرت تيارات الإسلام السياسي المتشدد في القرن العشرين رد فعل على الاحتلال الغربي وإجهاض مشاريع النهضة، ثم تحولت لاحقًا إلى تنظيمات مسلحة مثل "القاعدة" و"داعش". وقد تبنّت هذه الجماعات خطابًا تكفيريًّا يعتمد على قراءة حرفية للنصوص. ومارست بعض تيارات التشدد الإسلامي العنف ضد المدنيين والمخالفين، واستهدفت الأقليات الدينية، ونفذت عمليات إرهابية عابرة للحدود، ما أدى إلى تحالف دولي واسع لمواجهتها.
ومع تشابه الأساليب والممارسات، فإن المجتمع الدولي أظهر تشددًا بالغًا تجاه التطرف الإسلامي، مقابل تساهل واضح مع التطرف اليهودي والمسيحي. فالحركات الإسلامية المتطرفة مثل داعش والقاعدة صُنّفت إرهابية فورًا كما قوبل التطرف الإسلامي بردود أمنية وعسكرية فورية، ولم تُصنف حركات استيطانية إرهابية، مثل "شبيبة التلال" و"لهافا" و"كاخ" و"تاغ محير" وعدد من الكنائس المسيحية المتطرفة، ضمن لائحة الإرهاب، رغم ممارستها أبشع من تلك التصرفات والتي تندرج جميعها في إطار الإرهاب ضد الفلسطينيين والمسلمين.


العلاقة بين اليمين والصهيونية وتأثيراتها:

تحالفات مكشوفة:
ثمة تحالف أيديولوجي بين الصهيونية واليمين المتطرف العالمي، الذي يرى في إسرائيل رأس حربة ضد الإسلام والمهاجرين وهناك شواهد وأحداث تدل على ذلك فخلال العقدين الأخيرين، تصاعدت موجة من الخطابات اليمينية المتطرفة في أوروبا وأمريكا الشمالية، تصور الإسلام كـ"تهديد حضاري" للغرب. في هذا السياق، ظهرت إسرائيل في هذه السردية كـ"خط الدفاع الأول" عن الغرب في وجه ما أسموه بالخطر الإسلامي, ووجدنا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م أنْ تبنت العديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية —مثل حزب "فوكس" في إسبانيا، و"الجبهة الوطنية" في فرنسا (مارين لوبان)، و"حزب الحرية" في هولندا (خيرت فيلدرز)— خطابًا مؤيدًا لإسرائيل باعتبارها دولة تحارب "الإرهاب الإسلامي".
أما دونالد ترامب ومحيطه اليميني (ستيف بانون، جيسون غرينبلات) استخدموا إسرائيل في خطابهم كرمز للحضارة الغربية في مواجهة "الإسلام الراديكالي"، واعتبروا اجراءاتهم لنقل السفارة الأمريكية للقدس (2017) خطوة ضمن هذا الصراع الحضاري. هذا التحالف لم يُبنَ على قاعدة دينية أو إنسانية، بل أيديولوجية استعمارية ترى في إسرائيل وكيلًا استيطانيًا في الشرق الأوسط، ينفذ وظيفة سياسية وأمنية تخدم توازن القوى الدولي، وأداة لإدامة حالة عدم الاستقرار في محيطها الإسلامي.

كما تم استخدام إسرائيل كرمز لمعاداة المهاجرين فاليمين المتطرف العالمي، الذي يناهض الهجرة، يستشهد بإسرائيل كنموذج لدولة تفرض قيودًا صارمة على الهجرة وتحافظ على "هوية إثنية خالصة، ومن شواهد ذلك فيكتور أوربان (رئيس وزراء المجر) نجده قد أشاد بسياسة إسرائيل الأمنية والجدار العازل ضد الفلسطينيين كنموذج للسيادة على الحدود، وجاءت تصريحات مارين لوبان لتؤكد أن "إسرائيل تدافع عن هويتها اليهودية كما يجب أن تدافع فرنسا عن هويتها المسيحية، هذه الاستخدامات توضح بجلاء أن إسرائيل لم تعد فقط مشروعًا صهيونيًا يهوديًا، بل تحولت إلى أيقونة سياسية وأمنية لليمين المتطرف في معاركه ضد المهاجرين والأقليات، وهو انعكاس لوظيفة استعمارية تقوم على تقسيم العالم إلى "مراكز حضارية" و"هامش فوضوي" يجب ضبطه وقمعه.
وقد مثلت عدة نماذج من العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أداة استعمارية، حيث أسست هذه التحالفات لنظام استعماري حديث يقوم على "تقنيات السيطرة" بدل الاحتلال التقليدي، عبر خلق شبكات مصالح أيديولوجية وأمنية وعسكرية بين قوى استعمارية جديدة تستخدم إسرائيل كأداة وواجهة.

التدخل في الشؤون العربية:
استخدمت إسرائيل نفوذها لتحريض القوى الكبرى على التدخل في شؤون الدول العربية، عبر دعم انفصاليين، وتمويل ميليشيات، وتأجيج النزاعات الطائفية، خاصة في العراق وسورية ولبنان؛ فإسرائيل منذ تأسيسها، سعت إلى استثمار نفوذها لدى القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا، لدفعها نحو التدخل في الشؤون العربية بما يخدم استراتيجيتها لتفتيت المحيط. ففي لبنان، لعبت دورًا رئيسيًا في دعم الميليشيات المسيحية خلال الحرب الأهلية (1975-1990)، ونسقت مع واشنطن وباريس لضرب النفوذ الفلسطيني واليساري، وصولًا إلى اجتياح بيروت 1982. أما في العراق، فقد دعمت تل أبيب بهدوء الأكراد الانفصاليين خلال سبعينيات القرن العشرين، مستغلة علاقتها بجهاز المخابرات الإيرانية "السافاك" حينها، لتقويض وحدة العراق.
وسياسيًا، تقوم هذه الاستراتيجية على نظرية "الأطراف المفككة"، التي تراهن إسرائيل من خلالها على إضعاف الكيانات العربية الكبرى عبر النزاعات الداخلية والطائفية، لتبقى الدولة العبرية القوة المهيمنة غير المهددة في الإقليم.

نظرة مستقبلية
في ظل صعود هذه الحركات رفضت التيارات اليهودية المتطرفة أي تسوية سياسية، حيث ترفض مبدأ "الأرض مقابل السلام"، كما تضغط المسيحية الصهيونية لفرض الرؤية الإسرائيلية على المفاوضات. ويشكل تصاعد نفوذ الحركات الدينية المتطرفة اليهودية والمسيحية، إلى جانب استمرار تغذية الجماعات المتشددة في العالم الإسلامي، عائقًا أمام مشاريع التسوية، ويُخشى أن يؤدي ذلك إلى دورات عنف متجددة.
يتطلب تحقيق السلام تفكيك الحركات المتطرفة من خلال: تحجيم دور رجال الدين المتطرفين في القرار السياسي، وتفكيك منظومة التطرف الديني الصهيوني، وفصل الدين عن الدولة في إسرائيل، بجانب تحييد الأصولية المسيحية الداعمة لإسرائيل، وفرض رقابة دولية على الاستيطان وجرائم الحرب، مع فتح قنوات الحوار الديني المعتدل؛ ومن ثم مواجهة التطرف الإسلامي بتجديد الخطاب الديني وتطبيق معايير موحّدة تجاه التشدد الديني، بعيدًا عن ازدواجية المعايير.

خلاصة القول
يكشف هذا التحليل أن الحركات الدينية المتطرفة، سواء كانت يهودية أو مسيحية أو إسلامية، تمثل خطرًا ماثلًا على استقرار الشرق الأوسط والعالم، غير أن الانحياز الغربي لصالح تيارات التطرف اليهودي والمسيحي يسهم في استمرار النزاعات، ومن دون مراجعة جذرية للسياسات الدولية، وإخضاع إسرائيل للمساءلة، ومكافحة التطرف الديني بجميع أشكاله، ستبقى المنطقة أسيرة صراعات دينية مستدامة، ويظل الحل رهينًا بإرادة دولية عادلة، قادرة على كبح جماح الحركات المتطرفة بمختلف توجهاتها، وفرض قواعد حقوقية وإنسانية متساوية على الجميع.