آخر تحديث :الخميس-09 أكتوبر 2025-04:23م

آفاتار: الاحتلال المزدوج

الخميس - 09 أكتوبر 2025 - الساعة 04:23 م

د. أنور محمود زناتي
بقلم: د. أنور محمود زناتي
- ارشيف الكاتب


فيلم آفاتار Avatar (2009) الذي قدّمه جيمس كاميرون لم يكن مجرد ملحمة خيالية عن كوكب بعيد اسمه "باندورا"، بل كان استعارة مكثّفة للاستعمار الحديث. البشر القادمون من الأرض لم يبحثوا سوى عن الثروات والمعادن، ولم يترددوا في تدمير الطبيعة وسحق السكان الأصليين من أجل مصالحهم. هذه الصورة السينمائية ليست بعيدة عن واقعنا العربي، حيث تتحرك الولايات المتحدة كقوة غازية لا ترى في المنطقة سوى حقول نفط وأسواق سلاح ومواقع استراتيجية، فيما تلعب إسرائيل دور القاعدة المتقدمة للمستعمر، تسحق أصحاب الأرض الأصليين في فلسطين كما سُحقت شعوب باندورا.

الاحتلال التكنولوجي
في آفاتار، لا يملك السكان الأصليون أسلحة تضاهي قوة الآلات البشرية، تمامًا كما لا يملك العرب اليوم قوة توازي الترسانة الأمريكية والإسرائيلية. الفارق التكنولوجي الهائل يُستغل لتبرير السيطرة: "نحن الأقوى إذن نحن الأحق".
أمريكا تسير بهذا المنطق في العراق وأفغانستان، حيث الطائرات بلا طيار، الرصد الإلكتروني، وأنظمة الدفاع الذكية تجعل أي مقاومة تقليدية شبه مستحيلة. إسرائيل تعكس هذا المنطق يوميًا في غزة والضفة الغربية: تسيطر على الجو والطائرات تحلّق بلا توقف، الأنظمة الأمنية ترصد التحركات، والأرض تُختزل في مستوطنات تُزرع على أنقاض القرى الفلسطينية.
الاحتلال هنا لا يُمارس بالقوة المادية فقط، بل بالسيطرة على الوقت والمكان والمعلومة. أي حركة للفلسطيني أو العراقي تُراقب، أي قرار يُقيد، أي مقاومة تُقيّد قبل أن تبدأ. القوة التكنولوجية تصبح قدرًا حتميًا، وكأن الواقع نفسه مُبرمج ليؤكد أن الساحة دائمًا تحت سيطرة المحتل، وأن أي محاولة للتحدي لن تكون إلا مَشهدًا قصيرًا في لعبة أكبر من الإنسان نفسه.

الأرض كغنيمة، والإنسان كعائق
كما رأت الشركات الاستعمارية في باندورا معدنًا يُستخرج بلا اعتبار لسكانها، تُنظَر إلى خيرات الشرق الأوسط اليوم بعين اغتصابية: النفط مورد أول، الممرات البحرية مواقع استراتيجية ثانٍ، والموارد الجغرافية–الطبيعية مجرد عناصر تُحسَب في ميزان الربح والقوة. الإنسان في هذه الرؤية لا يُرى كغاية إنسانية، بل كعائق إداري—عامل يُهمل أو شعب يجب تهجيره أو قاعدة اقتطاع للهوية، لكي يظل المنفَعُوب حبيسًا لمصالح الآخرين.
المنطق واحد عند الإمبريالية: تحويل الأرض إلى غنيمة مشروطة بتحكم الأقوى. السياسة الأمريكية تُوظّف هذا المنطق عبر أدوات اقتصادية وعسكرية ودبلوماسية تُبقي الموارد تحت إدارة لا وطنية، بينما تُحوّل السكان المحليين إلى عوامل تكلّف يجب تقنينها أو تطويقها. وإسرائيل، في سياقها، تتعامل مع فلسطين بمنطق استيطاني متطابق: الأرض تُقرأ كخرائط يمكن رسمها، كأراضٍ تُقسّم وتُوزّع، أما الإنسان الفلسطيني فيُرى في خطاب الاحتلال كعائق جغرافي وسياسي—وجود جسدي وثقافي ينبغي تفريغه أو نقله أو تقييده كي يكتمل مشروع الاستيلاء.
النتيجة ليست فقط فقدان الملكية المادية، بل تفكيك منظومة المعنى: تُمحى الذاكرة، تُستبدل الأسماء، تُعاد كتابة الخرائط، ويُعاد تعريف الإنسان كمشكلة أمنية أو عبء اقتصادي. حين تُصبح الأرض غنيمة والإنسان عقبة، تتحول السياسات إلى أدوات تطهير بطيء—قانونيّة، إدارية، تكنولوجية—تُنتج واقعًا جديدًا يبدو طبيعياً بغطاء «الحاجة الأمنية» أو «المنطق الاقتصادي».
البديل الوحيد لرفض هذا المنطق أن تُستعاد الأرض والإنسان معًا كغاية لا كوسيلة: سيادة تُمارَس لصالح الشعوب، اقتصاد يخدم المجتمع لا شركات الغزو، وسردية تُعيد للإنسان مكانه في قلب القرار التاريخي. فقط حين يُعاد تأطير الأرض باعتبارها بيتًا مشتركًا—لا غنيمة—يتوقف تقنين الإنسان بوصفه عائقًا، ويبدأ مشروع حقيقي للعدالة.

الفضاء المحتل: من الطائرات إلى الأقمار
في الفيلم، الفضاء لم يكن ملاذًا بل مجالًا للهيمنة؛ الطائرات الحربية هي التي حسمت المعركة. وفي واقعنا، الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية لا تقتصر على الأرض، بل تمتد إلى الفضاء: أقمار صناعية للمراقبة، طائرات مسيّرة للاغتيال، وصواريخ عابرة للقارات تُذكّر العالم أن السيطرة ليست فقط على التراب بل أيضًا على الفضاء. هكذا يتحول الاحتلال إلى مشروع شامل: أرض تُنهب وسماء تُحاصر.

المقاومة كذاكرة الطبيعة
شعوب باندورا في الفيلم لم تستسلم، بل استعادت قوتها بالتماهي مع الأرض والطبيعة، وبالوحدة ضد الغازي. هذه الرسالة تتكرر في واقعنا العربي؛ فكل جولة قصف على غزة تُقابل بمقاومة أشرس، وكل محاولة محو للهوية العربية تُقابل بذاكرة ثقافية ودينية تُعيد إنتاج نفسها. أمريكا وإسرائيل تحاولان فرض منطق القوة، لكن الأرض تعرف أصحابها، والتاريخ يحفظ أسماءهم.

من باندورا إلى فلسطين
آفاتار لم يكن مجرد خيال علمي بل درس سياسي: الاستعمار مهما بدا قويًا يحمل بذور نهايته حين يستهين بذاكرة الشعوب. أمريكا قد تبدو اليوم القوى العظمى المسيطرة، وإسرائيل قد تبدو قادرة على سحق أي مقاومة، لكن كما فشل الغازي في باندورا رغم تفوقه التكنولوجي، سيفشل الغازي في فلسطين والشرق الأوسط لأن الأرض لا تُباع، والفضاء مهما تم السيطرة عليه، سيظل يضيء نجومًا ترشد الشعوب إلى حريتها.