آخر تحديث :الأحد-12 أكتوبر 2025-10:44م

الإدارة التنفيذية… سر التفوق في زمن العقول لا الثروات





في عالم اليوم، لم تعد الثروة ولا رأس المال المادي هما ما يصنع الفارق بين النجاح والفشل، بل أصبحت الإدارة التنفيذية هي العامل الأهم في بقاء المؤسسات واستمرارها. فكل فكرة عظيمة تحتاج من يقودها، وكل شركة ناجحة تقف خلفها إدارة واعية تحسن قراءة الأرقام كما تقرأ المستقبل. لهذا لم يعد المدير مجرد موظف رفيع، بل أصبح هو قلب المؤسسة وعقلها وضميرها.

تقول دراسات معهد غالوب” الأميركي إن 70% من أسباب نجاح الشركات يعود مباشرة إلى أسلوب الإدارة وجودة القيادة، فيما تؤكد جامعة هارفارد أن المؤسسات التي يقودها مديرون يتمتعون بقدرات استراتيجية وتنفيذية عالية تحقق أرباحًا تفوق غيرها بـ22% سنويًا. هذه الأرقام تكشف بوضوح أن الإدارة ليست عنصرًا من عناصر العمل، بل هي العامل الحاسم فيه.

الإدارة التنفيذية الناجحة تقوم على ثلاثة أركان: الرؤية، والتخطيط، والتنفيذ. المدير المتميز هو من يصنع من الحلم مشروعًا، ومن المشروع واقعًا، ومن الواقع قصة نجاح. لا يكتفي بإدارة الموارد بل يدير الاحتمالات، ويجعل من التحدي فرصة للنمو. المدير هو أول من يخطط، وآخر من ينام. فهو من يتحمل المسؤولية حين تنجح المؤسسة، ويتقدم الصفوف حين تخفق. لذلك يرى علماء الإدارة أن فشل المؤسسة هو في جوهره فشل في الإدارة قبل أن يكون فشلًا في التمويل أو التسويق.

في السنوات الأخيرة، أصبحت الإدارة الناجحة فنًّا يوازي العلم. فشركات عملاقة مثل أبل ومايكروسوفت وأمازون وتسلا لم تُبنَ على الصدفة، بل على *قرارات ذكية لمدراء استثنائيين.
ستيف جوبز أعاد “أبل” من الإفلاس إلى صدارة العالم بإبداعه وشغفه بالتفاصيل.
ساتيا ناديلا حوّل “مايكروسوفت من عملاق مترهل إلى قوة متجددة، عبر إحياء روح الابتكار والتواضع المؤسسي.
أما إيلون ماسك، فقد نقل إدارة الشركات إلى مستوى جديد من الجرأة والتخطيط المسبق للمستقبل، حين جعل من “تسلا” و”سبيس إكس” رمزين للثورة التقنية الجديدة.

وفق تقرير مجلة Forbes لعام 2025، بلغ متوسط راتب المدير التنفيذي في كبرى الشركات الأمريكية 14.8 مليون دولار سنويًا، فيما يتجاوز راتب المدير التنفيذي لشركة “تسلا” إيلون ماسك حاجز 45 مليار دولار في صورة مكافآت وأسهم سنوية، وهو رقم يعكس أن الفكر الإداري أصبح ثروة بحد ذاته.

وفي المقابل، تتميز اليابان بنموذج إداري مختلف. المدير الياباني لا يتقاضى رواتب فلكية، لكنه يحظى باحترام لا يقدّر بثمن. فوفق إحصاءات وزارة الاقتصاد اليابانية لعام 2024، يبلغ متوسط راتب المدير التنفيذي في كبرى الشركات اليابانية نحو 1.2 مليون دولار سنويًا، وهو أقل بعشر مرات من نظيره الأمريكي، لكن الأداء والالتزام والإنتاجية في الشركات اليابانية تُعد من الأعلى عالميًا. السر لا يكمن في المال، بل في الثقافة الإدارية القائمة على الانضباط، والتواضع، والعمل الجماعي. المدير هناك لا يُعامل كسلطة بل كقدوة، يشارك موظفيه المكاتب، ويغادر بعدهم.

وتُظهر بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أن اليابان تتصدر دول آسيا في استقرار الشركات واستمراريتها لأكثر من 50 عامًا بفضل أسلوب الإدارة الهادئ والمنظم. هذه الأرقام تثبت أن الإدارة ليست مجرد قرارات، بل ثقافة تُزرع في كل مستوى من مستويات العمل.

وفي عالمنا العربي، لا تزال كثير من المؤسسات تخلط بين الإدارة والسلطة، وبين القيادة والسيطرة. فالإدارة الحقيقية ليست أن تأمر، بل أن تُلهم. المدير الناجح لا يحكم من مكتبه، بل يقود من الميدان، يزرع في فريقه روح المبادرة ويمنحهم الثقة ليبدعوا. فحين تتحول الإدارة إلى شراكة فكرية، يصبح الموظف جزءًا من الحل لا مجرد منفّذ للأوامر. ويكفي أن نتأمل تجربة الشركات الناشئة في المنطقة العربية، لنرى كيف أن المؤسسات التي تدار بعقل شبابي منفتح حققت نموًا تجاوز 200% خلال خمس سنوات، في حين أن المشاريع التي تدار بعقلية بيروقراطية لم تصمد حتى عامها الثالث.

أما في اليمن، فإن غياب الإدارة الحديثة كان ولا يزال من أبرز أسباب تعثر كثير من المؤسسات الحكومية والخاصة على حد سواء. فالعشوائية في القرار، وضعف التخطيط، وتسييس الوظيفة الإدارية، جعلت الكفاءة تُستبدل بالولاء، والرؤية تُستبدل بالمجاملة. ورغم ذلك، برزت في السنوات الأخيرة محاولات واعدة لإعادة بناء مفهوم الإدارة على أسس علمية، خاصة في بعض المشاريع التنموية والشركات الناشئة في مأرب وعدن وحضرموت، حيث بدأ الجيل الجديد من القيادات الشابة يتعامل مع الإدارة بوصفها منهج تفكير لا منصبًا إداريًا.

الإدارة في اليمن والعالم العربي تحتاج إلى ثورة فكرية أكثر من حاجتها إلى قرارات تنظيمية. فحين ندرك أن المدير ليس زعيمًا بل خادمًا لمصلحة العمل، وأن القيادة ليست وجاهة بل مسؤولية، حينها فقط يمكن أن تنتقل مؤسساتنا من مرحلة التسيير إلى مرحلة الإنجاز. فالمدير الذي يملك رؤية، ويحترم الوقت، ويقيس الأداء بمعايير علمية، يمكنه أن ينهض بأي مؤسسة مهما كانت مواردها محدودة.

لقد آن الأوان لأن نعيد تعريف الإدارة في ثقافتنا العربية واليمنية على أنها فن بناء الإنسان قبل إدارة المكان. فحيث توجد إدارة راشدة، توجد دولة ناجحة، وحيث يغيب القائد الواعي، تكثر اللجان وتقل النتائج.

الإدارة ليست عملاً روتينيًا بل مسؤولية فكرية وأخلاقية. المدير الناجح هو من يصنع بيئة عمل محفزة، ويستثمر في عقول العاملين، ويحوّل الأزمات إلى فرص. في عالم يتغير كل يوم، تبقى *الإدارة هي القوة الخفية التي تُبقي المؤسسات حيّة وقادرة على المنافسة. فحيثما وُجدت إدارة واعية، وُجد النجاح، وحين تغيب القيادة الحقيقية، تتعثر حتى أغنى المؤسسات وأقواها.

إن المستقبل لن يكون للأغنى مالًا، بل للأذكى إدارةً.