آخر تحديث :الجمعة-03 أكتوبر 2025-01:17م

الاقتصاد الأخضر: الثورة الصامتة التي تصنع مستقبل الخليج

الجمعة - 03 أكتوبر 2025 - الساعة 01:17 م

يحيى محمد مناوس
بقلم: يحيى محمد مناوس
- ارشيف الكاتب



في زمن تتسارع فيه التحولات الاقتصادية، وتتعاظم فيه التحديات البيئية التي تهدد حياة الإنسان واستقرار الأرض، لم يعد الاقتصاد الأخضر خيارًا ثانويًا أو مشروعًا تجميليًا ترفعه الحكومات في المؤتمرات الدولية، بل أصبح ضرورة استراتيجية ملحّة تمثل معركة وجود بين التنمية والتدهور، وبين الأمل والانهيار. ودول الخليج العربي، التي عرفت كيف تحوّل النفط الأسود إلى قوة اقتصادية وسياسية عالمية، باتت مطالبة اليوم بأن تتقدم الصفوف في صناعة “النفط الجديد”، أي الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر، لتثبت للعالم أنها قادرة على قيادة مرحلة جديدة من التاريخ، لا تقوم على استنزاف الموارد، بل على الاستثمار في الطبيعة وحمايتها.

الاقتصاد الأخضر ليس شعارًا بيئيًا فارغًا، بل هو نموذج حضاري متكامل يوازن بين حماية البيئة وتحقيق النمو الاقتصادي، ويجمع بين الابتكار في التكنولوجيا والعدالة الاجتماعية، ويحوّل التحديات البيئية إلى فرص اقتصادية هائلة. إنه الاقتصاد الذي يرفع كفاءة استخدام الموارد الطبيعية، ويخفض الانبعاثات الكربونية، ويشجع على الابتكار في مجالات الطاقة المتجددة والزراعة المستدامة والبناء الصديق للبيئة وإدارة النفايات والنقل الأخضر. وكل مشروع في هذا المجال لا يعد مجرد خطوة تقنية، بل هو شهادة ميلاد لمستقبل نظيف، يضمن للأجيال القادمة بيئة صحية واقتصادًا مزدهرًا في آن واحد.

وقد أدركت دول الخليج هذه الحقيقة، فبدأت تتحرك بخطوات جادة لترجمة الرؤية الخضراء إلى واقع ملموس. فمدينة مصدر في أبوظبي، التي تقوم على الطاقة الشمسية والمباني الخضراء، لم تعد مجرد حلم هندسي، بل أصبحت مثالًا حيًا على إمكانية الجمع بين التكنولوجيا والبيئة في قالب اقتصادي مربح. أما مشروع نيوم في السعودية، فهو إعلان صريح بأن المدن الذكية والمستدامة لم تعد فكرة مستقبلية، بل واقعًا يُبنى الآن ليحتضن أجيالًا جديدة في بيئة تعتمد على الطاقة الشمسية والرياح ونظم إدارة المياه والنفايات بذكاء متكامل. وفي دبي، أثبت مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية أن الطاقة المتجددة قادرة على خفض كلفة الكهرباء بشكل دراماتيكي، فيما تشهد الرياض ودبي تحولًا في قطاع النقل عبر إدخال الحافلات الكهربائية التي ساهمت في خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 30%، وهو تحول نوعي يثبت أن الاقتصاد الأخضر ليس ترفًا بل ضرورة عاجلة.

لكن المسألة لا تتوقف عند حدود المشاريع الكبرى، فالاقتصاد الأخضر يفتح الباب واسعًا أمام ريادة الأعمال والابتكار الفردي. فالمشاريع الصغيرة والمتوسطة في مجالات الطاقة المتجددة، والزراعة الذكية، وإدارة النفايات، وإنتاج الأغذية العضوية، والتكنولوجيا البيئية، أصبحت اليوم فرصًا ذهبية للشباب والنساء، تتيح لهم المساهمة في بناء مستقبل مستدام، وتحويل البيئة من مجرد تحدٍ إلى رأسمال اقتصادي مربح. ومن هنا يصبح الاقتصاد الأخضر ليس مجرد سياسة حكومية، بل حراكًا مجتمعيًا شاملاً يشارك فيه الجميع، من صانع القرار إلى المزارع البسيط، ومن الشركات العملاقة إلى رواد الأعمال الناشئين.

وإذا كان العالم بأسره يسعى إلى الاستفادة من هذا التحول، فإن الخليج العربي يمتلك ميزات طبيعية واستراتيجية تجعله في موقع ريادي لا ينافس. فالشمس التي تشرق معظم أيام السنة، والرياح التي تهب على مساحات شاسعة، والموقع الجغرافي الذي يجعله مركزًا عالميًا لتصدير الطاقة النظيفة، كلها عناصر تمنح دول الخليج قدرة استثنائية على قيادة الثورة الخضراء. وحتى ندرة المياه التي تمثل تحديًا كبيرًا، تحولت إلى فرصة للاستثمار في تقنيات إدارة المياه الحديثة والزراعة المستدامة، مما يعزز الأمن الغذائي ويقلل الهدر.

إن التحول نحو الاقتصاد الأخضر لا يمكن أن يكتمل من دون بناء القدرات البشرية، فالمعادلة لا تعتمد على التكنولوجيا وحدها، بل على الإنسان الذي يصنعها ويطورها. لذلك فإن الاستثمار في التعليم والتدريب والبحث العلمي، وإنشاء مراكز أبحاث متخصصة، واعتماد المعايير البيئية العالمية مثل ISO 14001، كلها خطوات أساسية لتأهيل جيل جديد من الخبراء والقادة القادرين على حمل راية التحول الأخضر. فكل شاب يتم تدريبه اليوم في مجال الطاقة المتجددة أو إعادة التدوير أو الزراعة الذكية، هو في الحقيقة مهندس لمستقبل أكثر استدامة.

وعلى صعيد الأثر المتوقع، فإن السنوات الخمس المقبلة تحمل وعودًا ضخمة. فمن الناحية الاقتصادية يمكن لدول الخليج أن توفر ما بين 30 و40% من استهلاكها للطاقة والمياه، وتجذب استثمارات بمليارات الدولارات، وتخلق ما يزيد عن نصف مليون وظيفة جديدة. ومن الناحية البيئية، فإن خفض الانبعاثات الكربونية وتحسين جودة الهواء سيجعل مدن الخليج أكثر صحة وجاذبية. أما اجتماعيًا، فإن إشراك الشباب والنساء في المشاريع الخضراء سيعزز العدالة الاجتماعية ويقلل البطالة ويدعم الاستقرار المجتمعي. وعلى الصعيد التقني، سيحفز الاقتصاد الأخضر الابتكار في الطاقة والتكنولوجيا البيئية، فيما سيمنح الخليج على الصعيد السياسي قوة إضافية، من خلال تعزيز استقلاله الطاقي ورفع مكانته الدولية كقوة رائدة في التنمية المستدامة.

إن الخلاصة التي لا يمكن تجاهلها أن الاقتصاد الأخضر ليس خيارًا بديلاً بل قدرًا حتميًا، ومن يتأخر عن ركبه سيجد نفسه غارقًا في أزمات طاقة وغذاء وبيئة لا ترحم. أما من يسارع إلى تبنيه فسيحجز لنفسه مكانًا في الصفوف الأولى من مسيرة الإنسانية نحو المستقبل. والخليج، بما يمتلكه من موارد طبيعية وطاقات بشرية وقدرات مالية، قادر على أن يكون نموذجًا عالميًا يحتذى به، بل وقاطرة تقود العالم إلى عصر جديد من التنمية المستدامة. إنه الاقتصاد الذي يستثمر في البشر والحجر والهواء والماء، ويحول البيئة من عبء إلى ثروة، ومن تحدٍ إلى فرصة، ومن أزمة إلى مستقبل مزدهر.