آخر تحديث :الأربعاء-04 يونيو 2025-01:17ص

مجلة جرهم


الدولـــــــــــرة.. الهيمنة الأمريكية وتحديـات الإلغـاء

الدولـــــــــــرة.. الهيمنة الأمريكية وتحديـات الإلغـاء

الثلاثاء - 13 مايو 2025 - 09:08 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. عبد القادر أحمد العواضي باحث وخبير في التنمية الاقتصادية - اليمن

مقدمة
على مدى عقود طويلة، يعتبر الدولار الأمريكي هو العملة المهيمنة، ويحتفظ بصدارة لا مثيل لها في النظام المالي العالمي، إذ يمثل حوالي 58% من احتياطيات النقد الأجنبي على مستوى العالم وذلك بسبب الحجم الهائل للاقتصاد الأمريكي، الذي تبلغ قيمته أكثر من 25 تريليون دولار، والاستقرار السياسي في الولايات المتحدة، إلا أنه ظهرت مؤخرًا دعوات متزايدة إلى إلغاء الدولرة، أو تقليل الاعتماد على الدولار في التجارة الدولية والاحتياطيات النقدية، تتزعم هذه الجهود دول كبرى مثل الصين وروسيا، مدفوعة برغبتها في التحرر من هيمنة الدولار وتجنب التأثيرات السلبية للعقوبات الأمريكية التي أصبحت أداة سياسية مؤثرة؛ لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى أي مدى يمكن تحقيق هذا الطموح؟، وما هي العوامل التي تجعل هذه الجهود تواجه فرص النجاح والفشل؟.
الدولرة والهيمنة الدولية
يشير مفهوم الدولرة إلى استخدام الدولار الأمريكي كعملة رئيسية في التجارة الدولية والاحتياطيات النقدية، وحتى في المعاملات المحلية لبعض الدول، وقد اكتسب الدولار مكانته بسبب قوة الاقتصاد الأمريكي ودوره المركزي في النظام المالي العالمي، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى قررت العديد من الدول التخلي عن معيار الذهب لتتمكن من طباعة النقود لدفع ثمن مشاركتها العسكرية في الحرب.
وتعود جذور هيمنة الدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي إلى اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، حيث جاءت اتفاقية "بريتون وودز"، بمبادرة من 44 دولة، لتنظيم التجارة العالمية وتحقيق نوع من الاستقرار المالي الدولي، ونصت حينها على "اعتماد الدولار الأمريكي" كعملة رئيسية لتحديد أسعار عملات الدول الأخرى، وكان الدولار حينها مرتبطًا بالذهب عند سعر 35 دولارًا للأونصة، وأصبحت العديد من الدول تقوم بتثبيت سعر صرف عملتها مقابل الدولار؛ لذلك تهافتت البنوك المركزية على الدولار من أجل تكوين احتياطياتها، خاصة أن ودائعه كانت مستقرة مثل الذهب إضافة إلى سهولة إدارتها، وبالتالي بدا أن الأمريكيين ينتجون ذهبًا عندما يطبعون بعض الدولارات، ثم بدأ بنك فرنسا بشكل منهجي منذ عام 1965 في استبدال الذهب بدولاراته.
في الستينات من القرن الماضي، بدأت الولايات المتحدة تواجه عجزًا ونفادًا في احتياطياتها من الذهب، الأمر الذي يعني أن حفاظها على وعدها بربط الدولار بالذهب أصبح صعبًا، لتفاجئ العالم في 15 أغسطس/آب 1971 دون تنسيق مسبق مع أي من حلفائها، عن إنهاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب، حيث دفع الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيسكون إلى فك الارتباط بين الدولار والذهب، مما عزز سيطرته كعملة احتياط عالمية، وأجرى "نيكسون" حينها ترتيبًا يحدد قيمة الدولار اعتمادًا على مزيج من "المؤشرات والقوى والعوامل السياسية والاقتصادية"، ورغم ذلك بقي الدولار مسيطرًا ويعتبر العملة الأولى للاحتياطيات الأجنبية في الدول.
منذ عام 1973 الذي تميز بارتفاع شديد في أسعار النفط (المادة الخام التي تصدر فواتيرها بالدولار فقط)، ظهرت مشكلة الـ "بترودولار"، عندما أصبحت المبالغ الهائلة التي تنتجها أسواق الطاقة تستثمر كأولوية في الأسواق الأمريكية، ما وفر ميزة نسبية لاقتصاد الولايات المتحدة، وأدى إلى إحباط كبير بين شركائها الأوروبيين.
كما عززت الأزمة المالية العالمية عام 2008 من قيمة الدولار رغم أنها كانت مسؤولية الولايات المتحدة وحدها، حتى أن الرئيس باراك أوباما توقع في مؤتمر صحفي عُقد في مارس/آذار 2009، أن الدولار سيحتفظ بهيمنته على التجارة العالمية والاحتياطيات، مستندًا في ذلك إلى أسباب سياسية لا اقتصادية، وهي "أن أمريكا لديها أكثر الأنظمة استقرارًا وشفافية في العالم".
وفي عام 2014، اضطر بنك باريبا (BNP) إلى دفع غرامة قدرها 9 مليارات دولار إلى الولايات المتحدة بسبب قيامه -قانونيًا حسب القانون الأوروبي والفرنسي- بتمويل صادرات من كوبا والسودان وإيران بالدولار، لأن هذه الدول الثلاث كانت تحت الحظر الأمريكي، ونظرًا لأن التمويل مر عبر حساب باريبا في نيويورك لجزء من الثانية، أعلنت العدالة الأمريكية اختصاصه الإقليمي؛ وبهذه الطريقة فرض الأمريكيون قوانينهم على دول العالم الأخرى، وبالتالي كان على الشركات الأوروبية الامتثال ومغادرة إيران عام 2018 بعد أن خرج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من جانب واحد من اتفاق فيينا النووي لعام 2015.
كانت الخطوة التالية في "تسليح الدولار" هي تجميد احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي الروسي المقومة بالدولار في عام 2022، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فهي التي جعلت القادة غير الغربيين يقولون لأنفسهم "إذا كنت في حالة حرب مع أحد الجيران وهذا الصراع لا يرضي واشنطن، فقد أفقد فجأة جزءًا كبيرًا من احتياطياتي من النقد الأجنبي، لذلك سأخفض تجارتي بالدولار بشكل كبير". وهذا ما تفعله روسيا الآن.
أسباب هيمنة الدولار
وقد انصب الاهتمام مؤخرًا على هيمنة الدولار الأمريكي -أي دوره الكبير في الاقتصاد العالمي- حيث ساهمت قوة الاقتصاد الأمريكي وتشديد السياسة النقدية وتفاقم المخاطر الجغرافية - السياسية في ارتفاع قيمة الورقة الخضراء. وفي الوقت نفسه، فإن التشرذم الاقتصادي، واحتمال إعادة تنظيم النشاط الاقتصادي والمالي العالمي إلى كتل منفصلة وغير متداخلة، قد يشجعان بعض البلدان على استخدام وحيازة عملات دولية واحتياطية أخرى؛ وتشير أحدث بيانات تكوين عملات احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي إلى استمرار الانخفاض التدريجي في نصيب الدولار من الاحتياطيات الأجنبية المخصصة لدى البنوك المركزية والحكومات؛ نخلص مما سبق أن أسباب هيمنة الدولار تمثل في:
- تاريخيًا: اتفاقية بريتون وودز (1944):
وضعت الاتفاقية الدولار في مركز النظام المالي العالمي بربطه بالذهب، ورغم انتهاء هذا الارتباط عام 1971، بقي الدولار العملة الأهم بسبب استقرار الاقتصاد الأمريكي.
- الثقة بالدولار:
الدولار يُعتبر أصلًا آمنًا نظرًا لقوة الاقتصاد الأمريكي.
المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تعتمد على الدولار كعملة رئيسية.
- دور الدولار في التجارة الدولية:
يُستخدم الدولار لتسعير السلع الأساسية مثل النفط والغاز (ما يُعرف بـ "بترو دولار").
أكثر من 88% من المعاملات الدولية تتم بالدولار.
- النظام المالي العالمي:
أنظمة الدفع مثل SWIFT والمقاصة العالمية مبنية حول الدولار، ما يجعل تغييره عملية معقدة.
- الهيمنة السياسية والاقتصادية الأمريكية:
تستخدم الولايات المتحدة الدولار كأداة لفرض العقوبات الاقتصادية على الدول التي تخالف سياساتها، مما يعزز الهيمنة المالية.
الأهمية والامتيازات
تمتلك الولايات المتحدة امتيازات عديدة بسبب الدولار؛ أبرزها: سندات الخزانة الأمريكية التي تعتبر من "الديون الأكثر جاذبية" للعديد من البلدان التي تريد تحقيق العوائد عن طريق "شراء الديون الأمريكية"، إذ تمتلك الصين مليارات الدولار من هذه الديون؛ ويشير تقرير "أن بي أر" أن من مزايا الدولار التي يوفرها لواشنطن إمكانية الاقتراض به، فهذا يعني أنه إذا خفضت الولايات المتحدة قيمة الدولار، فهذا يعني خفض قيمة ديونها، وهو ما لن تقوم به أمريكا، ولكنه يبقى قابلًا للتطبيق نظريًا، ومن مزايا هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي ما يتيحه من استخدامه بقوة في "معاقبة" الخصوم، مثل إيران وروسيا، ولهذا سعت موسكو منذ بداية حربها على أوكرانيا إلى بيع نفطها بالروبل الروسي بعيدًا عن الدولار، ويعتبر صندوق النقد الدولي هو الهيئة المسؤولة عن مراقبة النظام النقدي، وهو يحدد احتياطي العملات الأجنبية بتلك التي تكون بـ: الدولار الأمريكي، الدولار الأسترالي، الجنيه الإسترليني، الدولار الكندي، اليوان الصيني، اليورو الأوروبي، الين الياباني، الفرنك السويسري، فيما يشكل الدولار الأمريكي 60 % من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، كما يشير التحليل إلى أن الدولار الأمريكي لا يزال العملة المفضلة للتجارة الدولية، خاصة للسلع الرئيسية مثل النفط، ومما أعطى دفعة قوية للدولار أيضًا، اتفاق السعودية مع الولايات المتحدة على تسعير وبيع النفط بالدولار الأمريكي ليظهر ما يعرف بمصطلح "البترودولار" في السبعينيات من القرن الماضي.
ويمكن استخلاص أهمية التأثيرات السياسية والاقتصادية للدولرة في النقاط التالية:
- أداة استقرار عالمي:
يُعتبر الدولار ملاذًا آمنًا أثناء الأزمات الاقتصادية والسياسية، مثال ذلك خلال أزمة 2008 المالية، حيث شهد الدولار ارتفاعًا في قيمته رغم أن الأزمة بدأت في الولايات المتحدة.
- سهولة التجارة الدولية:
الدولار يسهل التجارة العالمية بفضل دوره الموحد في تسعير السلع.
- دعم الاقتصادات الناشئة:
يتيح الدولار للدول النامية الوصول إلى الأسواق العالمية بتكاليف أقل.
أما عيوب التأثيرات السياسية والاقتصادية للدولرة فتتمثل في:
- التبعية الاقتصادية:
يجعل اعتماد الدولار الدول عرضة لتقلبات السياسة النقدية الأمريكية، مثال: رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة في 2022 أدى إلى تضخم الأزمات الاقتصادية في الدول النامية.
- العقوبات الاقتصادية:
يُستخدم الدولار كأداة ضغط لمعاقبة الدول، مثال ذلك عندما تم تجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي بالدولار في 2022، ما دفع روسيا إلى تعزيز تعاملاتها بالروبل واليوان.
- قيود التمويل:
الاقتصادات الصغيرة تواجه صعوبات في التعامل بالدولار، حيث يتطلب ذلك احتياطيات نقدية كبيرة لتجنب الأزمات.
إجمالًا، تمثل الدولرة سلاحًا ذو حدين؛ فهي تسهم في استقرار النظام المالي العالمي لكنها تُضعف استقلالية الاقتصادات الوطنية.
تحديات استمرار هيمنة الدولار:
تشير دراسة أعدها مركز الأبحاث التابع للكونغرس الأمريكي إلى وجود 3 تحديات لاستمرار هيمنة الدولار وهي:
- تصاعد الدور الصيني في الاقتصاد العالمي حيث تحاول الصين تعزيز استخدام عملتها بشكل أوسع عما هي عليه.
- أما التحدي الثاني فهو "العقوبات المالية الأمريكية" والتي تستفيد الولايات المتحدة منها على الصعيد السياسي، ولكن الخزانة الأمريكية حذرت في أوقات مختلفة من أن الاستخدام المكثف للعقوبات المالية قد يهدد الدور المركزي للدولار والنظام المالي الأمريكي، إذ أنه يدفع بعض الدول للبحث عن أنظمة أخرى لتقليل اعتمادهم على الدولار.
- ثالثًا: تحدي ظهور العملات الرقمية والتي أوجدت أسواقًا خاصة، حيث ظهرت خلال جائحة كورونا مخاوف من تراجع الدولار كعملة مهيمنة، إذ يخشى خبراء من الإنفاق التحفيزي للحكومة الأمريكية، وارتفاع سقف الديون، ولكن هذا لا يمنع من استمراره كعملة "أكثر جاذبية" خاصة في ظل عدم وجود بدائل موثوقة.
وفي عام 2020 أكدت دراسة لصندوق النقد الدولي أنه "لا توجد أي مؤشرات على حدوث تغييرات كبيرة في تكوين عملات الاحتياطي لدى البنوك المركزية.. فهناك أجواء كثيفة من عدم اليقين تكتنف الاتجاهات العامة الاقتصادية والمالية حول العالم"، وأضافت أن البنوك المركزية قد تعيد النظر في تكوين الاحتياطيات وفي كيفية حيازتها في المستقبل، خاصة في ظل ظهور المنصات التقنية المتقدمة التي تستخدمها "العملات الرقمية"، ولكن يتوقع أن يحافظ "الدولار على هيمنته كعملة للاحتياطيات" الأجنبية.
وهناك الكثير من التحديات الأخرى يمكن تلخيصها في الآتي:
1. الثقة بالعملات البديلة:
حيث يتمتع الدولار بثقة عالمية بسبب استقرار الاقتصاد الأمريكي، بينما العملات الوطنية للدول الأخرى غالبًا ما تكون أكثر عرضة للتقلبات.
2. عدم وجود بنية تحتية مالية بديلة:
فالنظام المالي العالمي، بما في ذلك أنظمة الدفع (SWIFT) والبنوك المركزية، تعتمد بشكل أساسي على الدولار، بالإضافة إلى أن إنشاء أنظمة بديلة يتطلب استثمارات ضخمة ووقتًا طويلًا.
3. غياب التنسيق بين الدول:
حيث تواجه التحالفات مثل BRICS صعوبات في تحقيق رؤية مشتركة، أضف إلى ذلك أن بعض الدول قد تتراجع تحت الضغط الأمريكي.
4. قوة الاقتصاد الأمريكي:
حيث ما زالت الولايات المتحدة أكبر اقتصاد عالمي، وتتحكم في كثير من المؤسسات الدولية، مما يجعل تجاوز الدولار تحديًا كبيرًا.
محاولات ودوافع إلغاء الدولرة:
ظهرت الكثير من محاولات إلغاء الدولرة على المستوى الصيني والروسي، وأيضا ظهرت العديد من الاتحادات الدولية مثل دول بريكس والاتحاد الأوربي وغيرها، وفي عام 1999، تم إنشاء اليورو ونجح كعملة عالمية، لكنه لم يستطع منافسة عمق وسيولة أسواق نيويورك بسبب عدم وجود خزانة أوروبية موحدة، وبالتالي لم يستطع اليورو إسقاط الدولار عن مكانته كعملة الاحتياط والصرف الرئيسية في العالم، كما أن نظام النقد والاحتياطيات الدولي يواصل التطور، مع استمرار التحول التدريجي لتقليص هيمنة الدولار، والدور المتزايد للعملات غير التقليدية للاقتصادات الصغيرة المفتوحة ذات الإدارة الفعالة بفضل تكنولوجيات المتاجرة الرقمية الجديدة،
ويمكن تلخيص تلك الدوافع فيما يلي:
1. العقوبات الاقتصادية الأمريكية:
حيث تعتمد الولايات المتحدة على العقوبات كأداة رئيسية لتحقيق أهدافها السياسية، وهناك أمثلة لدول عانت من العقوبات التي عطلت أنظمتها المالية (روسيا وإيران وفنزويلا)، مما دفعها للبحث عن بدائل.
2. الرغبة في الاستقلال الاقتصادي:
حيث جعل الاعتماد المفرط على الدولار اقتصادات الدول أكثر عرضة للتقلبات العالمية، كما أن تعزيز العملات المحلية يحد من التبعية الاقتصادية للدولار.
3. خلق نظام مالي متعدد الأقطاب:
حيث تسعى دول مثل الصين وروسيا إلى تقليل الهيمنة الأمريكية وبناء عالم مالي قائم على التوازن بين العملات المختلفة.
4. دور التحالفات الدولية:
تعزز منظمات مثل BRICS ومنظمة شنغهاي التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، مما يتيح إمكانية تجاوز الدولار.
الجهود الدولية لإلغاء الدولرة:
في ظل الهيمنة الطويلة للدولار الأمريكي كعملة عالمية رئيسية، برز كل من اليورو الأوروبي واليوان الصيني في السنوات الأخيرة كمنافسين محتملين للدولار، ومع ذلك، يشير تقرير حديث صادر عن موقع "أوراسيا ريفيو" الأمريكي إلى أن التحديات الهيكلية والسياسية التي تواجه اليورو واليوان تحول دون أن يصبحا بديلين موثوقين للدولار في المستقبل القريب، ويشير التقرير إلى أنه ورغم دعم المؤسسات الأوروبية المستقرة لليورو تظل الانقسامات السياسية واختلاف السياسات المالية بين دول الاتحاد عقبة رئيسية أمام صعوده كعملة احتياطية عالمية.
ففي عام 2023، كان نصيب اليورو من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية حوالي 21% فقط. ورغم الخطوة الكبيرة التي تمثلت في إصدار ديون موحدة بقيمة 400 مليار يورو خلال أزمة كورونا، فإن الأسواق المالية في منطقة اليورو لا تزال تفتقر إلى العمق والسيولة التي تمتاز بها نظيراتها الأمريكية، مما يحد من قدرة اليورو على تحقيق مكانة أقوى على الساحة العالمية، كما شهد اليوان الصيني تقدما ملحوظًا في دوره الاقتصادي على الصعيد الدولي، حيث ارتفعت حصته في المدفوعات العالمية من 3.71% في عام 2023 إلى 8% في عام 2024، وفقا لتقرير سويفت، ويعكس هذا النمو المتسارع مكانة الصين الاقتصادية المتزايدة في التجارة الدولية. ومع ذلك فإن العقبات الرئيسية التي تعيق اعتماد اليوان كعملة احتياطية تشمل السيطرة الصارمة للحكومة الصينية على رأس المال، ونقص الشفافية في الأسواق المالية، علاوة على ذلك فإن السلطة السياسية المركزية التي يتمتع بها الحزب الشيوعي الصيني تزيد من التردد لدى الدول الأخرى في تبني اليوان كبديل موثوق.
وعلى مستوى الدول:
أولًا: روسيا:
تعد روسيا من أبرز الدول التي تسعى لإلغاء الدولرة بسبب العقوبات المفروضة عليها منذ عام 2014، والتي تصاعدت بشكل كبير بعد الحرب في أوكرانيا عام 2022، حيث خفضت احتياطياتها بالدولار بنسبة كبيرة، وبدأت في تسعير صادراتها بالروبل أو اليوان، ثم طورت نظام SPFS كبديل لنظام SWIFT، واستخدام العملات الرقمية لتحايل على العقوبات.
ثانيًا: الصين:
باعتبار الصين قوة عالمية منافسة فقد سعت إلى الحد من تقليل الاعتماد على الدولار حيث قامت بالعديد من الجهود أبرزها:
1. الترويج لليوان: من خلال تعزيز استخدامه في التجارة مع دول "مبادرة الحزام والطريق"، وإنشاء اتفاقيات تبادل عملات مع أكثر من 50 دولة.
2. منصات تجارية باليوان: من خلال إطلاق "بورصة شنغهاي للطاقة" لتسعير النفط باليوان.
3. دعم العملات الرقمية: من خلال تطوير "اليوان الرقمي" كوسيلة لتعزيز التجارة الدولية وإطلاق نظام الدفع عبر الحدود CIPS كبديل لـ SWIFT.
ثالثا: دول أخرى:
- إيران وفنزويلا: استخدام أنظمة المقايضة أو العملات الوطنية لتجنب العقوبات.
- التحالفات الإقليمية: حيث تعمل BRICS على إنشاء عملة احتياطية مشتركة.
- دول إفريقيا: بدأت تعزيز التجارة البينية باستخدام العملات المحلية.
فرص النجاح ومخاطر الفشل
تتمثل فرص نجاح إلغاء الدولرة في مجموعة من العوامل منها:
- العملات الرقمية:
توفر العملات الرقمية حلولًا مبتكرة لتجاوز أنظمة الدفع التقليدية.
- تراجع الثقة بالدولار:
ارتفاع معدلات التضخم والديون في الولايات المتحدة قد يؤدي إلى تقليل الاعتماد على الدولار تدريجيًا.
- نمو الاقتصادات الآسيوية:
صعود الصين والهند يمكن أن يعزز دور العملات الإقليمية مثل اليوان والروبية.
- التحالفات الاقتصادية:
التعاون بين الدول، مثل BRICS ومنظمة شنغهاي، يمكن أن يساهم في إنشاء نظام بديل يخفف من الاعتماد على الدولار.
- الابتكار التكنولوجي:
العملات الرقمية، مثل "اليوان الرقمي"، تتيح فرصًا أكبر لتجاوز النظام المالي التقليدي.
وقد تواجهها بعض مخاطر الفشل المتمثلة في:
- الهيمنة الأمريكية المستمرة:
الولايات المتحدة قد تلجأ إلى ضغوط سياسية واقتصادية وعسكرية للحفاظ على مكانة الدولار.
- غياب بدائل قوية:
حتى الآن لا توجد عملة بديلة قادرة على استيعاب نفس مستوى التجارة والاحتياطيات العالمية.
- القضايا الجيوسياسية:
النزاعات بين الدول الساعية لإلغاء الدولرة قد تعيق التنسيق الفعّال.
- غياب التنسيق الدولي:
الدول التي تسعى لإلغاء الدولرة تفتقر إلى رؤية موحدة لتحقيق هذا الهدف.
السيادة العالمية والتجارة الأمريكية
ربما ستكون التأثيرات على الولايات المتحــــدة في حـــالـة إلغــاء الدولـرة، محــــدودة، مـثـــل:
- فقدان النفوذ السياسي:
بحيث سيقلل ضعف هيمنة الدولار من قدرة أمريكا على فرض العقوبات.
- زيادة التكاليف الاقتصادية:
حيث سيرفع تراجع الطلب على الدولار تكلفة الديون الأمريكية.
أما بالنسبة للتأثيرات على التجارة العالمية، فسوف يكون من حيث:
- تعزيز العملات المحلية:
فقد تعتمد الدول أكثر على عملاتها في التجارة الإقليمية.
- إعادة تشكيل الأنظمة المالية:
بحيث قد تظهر أنظمة دفع متعددة الأطراف تدعم العملات الإقليمية.
البدائل الممكنة
من المتوقع أن تستمر محاولات إلغاء الدولرة تدريجيًا، وقد تكون البدائل الممكنة من العملات الدولية في حال نجحت عمليات الإلغاء التدريجية للدولرة كالتالي:
- الذهب:
العودة إلى الذهب كنظام مرجعي يمكن أن يوفر استقرارًا أكبر للعملات.
- اليوان الصيني:
مرشح بارز بفضل قوة الاقتصاد الصيني ودعم الحكومة لتدويله.
- عملات رقمية للبنوك المركزية:
تقدم حلولًا مرنة وتقلل من الاعتماد على العملات التقليدية.
الخاتمة والتوصيات
تعود هيمنة الدولار الأمريكي على النظام المالي العالمي إلى سيولته العالية، وارتباطه بنظام المدفوعات العالمي (SWIFT)، ودوره كعملة احتياطية رئيسية تمثل 60% من الاحتياطيات العالمية. بالإضافة إلى ذلك، تسهم القوة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة، بما في ذلك ميزانية دفاعها الضخمة البالغة 877 مليار دولار، في تعزيز مكانته. ورغم التقدم الملحوظ لعملات مثل اليورو واليوان، تواجه هذه العملات تحديات هيكلية تجعل من الصعب منافسة الدولار على المدى القريب.
وفي حين يمثل إلغاء الدولرة تحولًا جذريًا في النظام المالي العالمي، إلا أنه يواجه عقبات كبيرة، مثل غياب البدائل القوية واعتماد الاقتصادات على البنية التحتية المرتبطة بالدولار. ورغم الجهود المبذولة من بعض الدول، فإن بناء نظام متعدد العملات قد يستغرق عقودًا، ومن خلال استقراء الواقع الاقتصادي العالمي في هذا الاتجاه نخلص إلى التوصيات التالية:
- تعزيز التنويع المالي:
تطوير عملات وطنية قوية وتشجيع التجارة بالعملات المحلية.
- تبني التقنيات الحديثة:
الاستثمار في أنظمة الدفع الرقمية والعملات الرقمية.
- التعاون الدولي:
إنشاء تكتلات اقتصادية تدعم التداول بعملات بديلة.
- إصلاحات محلية:
تطبيق سياسات تدعم استقرار العملات المحلية وبناء الثقة.
- التدرج في التطبيق:
تحقيق التوازن بين تقليل الاعتماد على الدولار وضمان الاستقرار المالي ■