آخر تحديث :الأربعاء-04 يونيو 2025-01:17ص

مجلة جرهم


الريـــــاض .. ذكاء الدبلوماسية واجتماع الكبار

الريـــــاض .. ذكاء الدبلوماسية واجتماع الكبار

الجمعة - 16 مايو 2025 - 08:58 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ عبدالعليم سنان

لطالما تمتعت المملكة العربية السعودية بمكانة دبلوماسية مرموقة على المستوى الإقليمي والعالمي، وبرزت في السنوات الأخيرة كلاعب رئيس في العديد من الملفات السياسية الكبرى. وبفضل سياستها المتوازنة ورؤيتها الاستراتيجية المدروسة، استطاعت الرياض أن تخلق لنفسها دورًا محوريًا في الساحة الدولية، خاصة فيما يتعلق بجمع القوى العظمى والوساطة بين الأطراف المتنازعة. تتجسد هذه الدبلوماسية الفائقة في استقبال المملكة لعدد من الزعماء السياسيين من مختلف أنحاء العالم، في ظل تصاعد التوترات الدولية والبحث المستمر عن حلول للأزمات العالمية، حيث استقبلت قادة العالم من مختلف القارات، في إطار حرصها على أن تكون جزءًا من الحلول السياسية حول العالم، لا سيما تلك التي تؤثر على منطقة الشرق الأوسط.
توازن العلاقات
وقد جاءت على رأس تلك الزيارات، زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرياض في 2017، فيما شهد شهر أكتوبر 2019، وشهر ديسمبر من العام 2023م زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المملكة، وكانت قد استقبلت السعودية كل من الرئيس الأمريكي "جو بايدن" في شهر يونيو 2022م والرئيس الصيني "شي جين بينغ" في شهر ديسمبر من نفس العام، كما استقبلت خلال الفترة الأخيرة زيارات لعدد من رؤساء الدول الإقليمية مثل: إيران وتركيا وأوكرانيا وباكستان ورئيسة الوزراء الايطالية والمستشار الألماني وغيرهم؛ هذه الزيارات مثلت جزءًا من استراتيجية الرياض لتنويع علاقاتها الدولية وعدم الانحياز لأي طرف، وهو ما جعلها تتمتع بثقة الأطراف المتنازعة، وتجسد نموذجًا متفردًا في الدبلوماسية الذكية التي تمكنها من توظيف مواقفها الاستراتيجية لتجمع بين القادة الكبار على طاولة الحوار، مع تحقيق توازن إقليمي وعالمي يحافظ على مصالحها الوطنية ويعزز من مكانتها الدولية.
أحد أبرز عناصر الذكاء الدبلوماسي السعودي هو القدرة على بناء علاقات مع كافة الأطراف الفاعلة في المشهد الدولي. فمن جهة، تربطها علاقات قوية مع الولايات المتحدة، خاصة على الصعيدين الأمني والاقتصادي، ومن جهة أخرى، نجحت في الحفاظ على توازنها في علاقتها مع كل من دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، مما يجعلها لاعبًا محوريًا في السياسة الدولية. ليس بسبب قوتها مكانتها السياسية والاقتصادية، بل لأنها تمتلك قدرات فاعلة في تقليل حدة التوترات التي تنشأ بين القوى الكبرى، مما يجعلها ملاذًا آمنًا للمفاوضات وحل الخلافات.
على نفس النحو، كان لزيارات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وعدد من دول العالم خلال السنوات الماضية، دور كبير في افتتاح مرحلة جديدة من التعاون المشترك بين الرياض وعدد من تلك الدول على مختلف المستويات والصعد السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها، كما أسست لعلاقات شخصية قوية بين الأمير محمد بن سلمان مع كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي جعل الرياض محل ثقة وتوازن دولي في اختيار الرياض مكانًا للمحادثات بين الدولتين العظميين بعد سنوات من القطيعة والعلاقات المعقدة.
لقاء الكبار
لذلك وفي خطوة غير مسبوقة، اختار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرياض لإجراء محادثات بينهما حول عدد من القضايا الإقليمية والدولية، في مقدمتها الحرب الروسية-الأوكرانية؛ هذه المحادثات التي جرت في فبراير 2025، عبر وزيري خارجية البلدين تمثل علامة فارقة في السياسة الدولية، إذ تأتي بعد سنوات من التوترات الحادة بين روسيا والولايات المتحدة.
المحادثات في الرياض كانت خطوة هامة نحو استعادة القنوات الدبلوماسية بين البلدين بعد سنوات من القطيعة والتوترات. وبدا واضحًا أن السعودية أصبحت قادرة على لعب دور الوسيط بين طرفين متنازعين مثل الولايات المتحدة وروسيا، وهي مهمة صعبة نظرًا لاختلاف وجهات النظر بين البلدين حول العديد من القضايا الدولية.
خلال المحادثات، التي حضرها وزيرا خارجية البلدين واستمرت أكثر من أربع ساعات، تم مناقشة العديد من القضايا العالقة بين واشنطن وموسكو، وقد لاقت إشادة واسعة ووصفت بأنها مثمرة، إذ تمحورت حول مسعى لإعادة بناء العلاقات الثنائية بين البلدين، مع التركيز على عدة قضايا مهمة مثل الطاقة، الحد من سباق التسلح، والأمن الأوروبي، بما في ذلك الوضع في أوكرانيا.
تلك المحادثات اعتبرت تمهيدًا للقاء ترامب وبوتين في الرياض بحضور ولي العهد السعودي، الأمر الذي يشكل لحظة حاسمة في تحديد ملامح العلاقات بين البلدين. وبينما لا يزال هناك الكثير من التفاؤل الحذر حول نتائج القمة، فإن المباحثات في الرياض قد تمهد الطريق نحو انفراج في العلاقة بين واشنطن وموسكو، التي شهدت توترات كبيرة منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، إذ يتوقع الكثيرون أن المملكة ستلعب دورًا كبيرًا في تهدئة الخلافات وتمكين الطرفين من طرح وجهات نظرهما للوصول إلى حلول للقضايا المعقدة والمتعددة بينهما، وسبل تعزيز العلاقات الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي، الأمر الذي قد يكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد العالمي.
لكن الأهم من ذلك هو الدور الذي يمكن أن تلعبه السعودية في تسوية الأزمة الأوكرانية، ليس فقط عبر دفع الأطراف الكبرى نحو التوصل إلى تفاهم، بل أيضًا من خلال استثمارها في توفير ضمانات أمنية للعديد من الدول المعنية، بما في ذلك أوكرانيا. وتعد هذه الفرصة مناسبة للرياض لإثبات قدرتها على أن تكون صانعًا للسلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
ذكاء الدبلوماسية
لا شك أن الرياض قد أثبتت مرارًا وتكرارًا أنها قوة دبلوماسية كبيرة على الساحة العربية والإقليمية والعالمية، حيث لا تزال الأنظار موجهة إليها في لعب دور كبير في وقف نزيف الدم الفلسطيني والوصول إلى حل دائم بشأن حرب غزة خصوصا والقضية الفلسطينية بشكل عام، وبخصوص قضايا الصراع العربي تستخدم المملكة دبلوماسية الصبر وبُـعـــد النظر؛ وهي دبلوماسية لا مكان فيها لردود الأفعال المتسرعة، أو أصحاب المصالح الضيقة، وتنبع أساسًا من الحرص على مستقبل وأمن المنطقة، التي تعد السعودية أحد أطرافها القوية الفاعلة والمؤثرة، وهو كفاح لن يتوقف لمجرد وقوع التغيير في سورية، ولبنان، والعراق، بل سيتواصل من أجل القضية المركزية - قضية فلسطين، وإحلال سلام دائم في السودان، والتوصل إلى حلٍّ للأزمة في اليمن لكي يعود "السعيد".
ختاما
من خلال سياستها الحكيمة والمستقلة، نجحت المملكة في بناء علاقات قوية مع القوى العظمى وتعزيز دورها كوسيط مهم في النزاعات الدولية. وبينما يتطلع العالم إلى تحقيق نتائج القمة بين ترامب وبوتين، يبقى الأمل قائمًا في أن تواصل الرياض لعب دورها الفعال في تحقيق السلام والأمن على الساحة الدولية. وفي النهاية، تعد هذه الزيارة بمثابة شهادة جديدة على حكمة القيادة السعودية وقدرتها على جمع الكبار في مكان واحد لتحقيق أهداف السلام والاستقرار العالمي ■