آخر تحديث :الأربعاء-04 يونيو 2025-01:17ص

مجلة جرهم


ســــــــــــــــــــــــــــــــورةالتــــــــــــــــــــــــــــــــيـن.. تـأمــــــلات ومقـاصـــــــد تربـويـــــة

ســــــــــــــــــــــــــــــــورةالتــــــــــــــــــــــــــــــــيـن..
  تـأمــــــلات ومقـاصـــــــد تربـويـــــة

الأحد - 25 مايو 2025 - 12:32 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ محمد أحمد العامري

مقـدمـــــة
خُتمت سورة الشرح التي تأتي قبل سورة التين في ترتيب المصحف بقوله تعالى: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) ﴾، هنا ترابط وإشارات يدل عليها ترتيب السورتين، فبعد أن كنا تحدثنا في العدد السابق عن سورة الشرح واستخلصنا منها: أنها أخبرت عن شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)﴾ ورفع ذكره، وتبرئته من الفتن التي يتعرض لها الإنسان وسببها الهوى والنفس، فجاءت سورة التين عقبها لتخبرنا أن باقي الخلق ضعفاء أمام نزعات الهوى والنفس التي عُصم منها عليه الصلاة والسلام.
نقل الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري في لطائف المنن عن الشيخ أبي العباس المرسي، قال قرأت مرة: ﴿والتين والزيتون﴾ إلى أن انتهيت إلى قوله: ﴿لقَد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4) ثُم رددناهُ أسفل سافلين﴾، ففكرت في معنى هذه الآية، فألهمني الله أن معناها: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحًا وعقلًا، ثم رددناه أسفل سافلين نفسًا وهوى. قال السيوطي: فظهر من هذه المناسبة وضْعُها بعد ﴿أَلم نشرح﴾، فإن تلك أخبر فيها عن شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك يستدعي كمال عقله وروحه، فكلاهما في القلب الذي محله الصدر، وعن خلاصه من الوزر الذي ينشأ من النفس والهوى، وهو معصوم منهما، وعن رفع الذكر، حيث نزه مقامه عن كل موهن. فلما كانت هذه السورة في هذا العلَم الفرد من الإنسان، أعقبها بسورة مشتملة على بقية الأناسي، وذكر ما خامرهم في متابعة النفس والهوى. (تناسق الدرر في تناسب السور للسيوطي ص163)...
إسقاطات
"التين" اسم السورة وبه كان القسم، لكنه لم يذكر في القرآن إلا بهذا الموضع، وذكرُه في القرآن ولو مرة يدل على شرف هذه الشجرة على غيرها، وبركتها في ذاتها، وبالأرض التي تنبت فيها وعليها، ومثلها الزيتون وما فيه من بركة وقد ذُكِر في القرآن في غير هذا الموضع، وفيه دليل فضل وبركة، وفيهما كفاية لو تفكر الإنسان في بديع خلقهما ليقوداه إلى معرفة الله الخالق البديع.
العظيم لا يقسم إلا بعظيم وفي هذه الثلاث الآيات ربطٌ بين ما عظمه الله من الشجر والحجر والمكان، ولجميعها رمزية تاريخية وقدسية مختلفة، ربما تقودك إلى أهمية الزمان والمكان في الماضي تاريخيًا وجغرافيًا ودينيًا، ولا أدري هل هي من الصدفة أن تمثل هذه الأماكن -الدال عليها هذا القسم- قلب الأمة الإسلامية حاليًا ومحور اهتمامها، أم هناك ترتيب وإشارة أراد الله بها أن يبين لنا عظمة هذه الأماكن سلفًا لنحافظ عليها مما قد يصيبها مستقبلًا، إذ ترتكز على بلدانها الأطماع ويدور فيها الصراع، فما بين الزيتون والبلد الأمين قبلتان لطالما حاولت النيل منهما كبريات دول الاستعمار في العصر الحديث، ليعاني وطن الزيتون -بلد القبلة الأولى- من الاحتلال والوحشية والاضطراب، حتى أصبح الزيتون رمزًا للأرض والمقاومة في الثقافة الفلسطينية في ظل الاحتلال والحروب المتواصلة.
فيما وصف الله بلد القبلة الثانية بالأمين، وهو ما يعيشه من أمن واستقرار بلد الحرمين الشريفين رغم محاولات النيل منها، قد يمكننا أن نعزو هذه الإسقاطات إلى حكمة بالغة لدى علام الغيوب في كتابٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد..
المحور الأساسي
الأمر الآخر أن سورة التين أتت بالقسم بأماكن متباعدة جغرافيًا، متصلة ببعضها موضوعيًا، وذات فضل ومكانة تاريخية، التين الذي يرمز إلى الشام، والزيتون إلى فلسطين، وطور سينين يرمز إلى سيناء، والبلد الأمين وهي مكة تصريحًا باسمها، والذي يرمز إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كل هذه الأمور العظيمة المقسم بها، وجواب قسمها هو المحور الأساسي الذي تدور حوله السورة، وهو الإيمان في حياة الإنسان ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وقصة الإنسان، وتكريم الله سبحانه وتعالى لهذا المخلوق العجيب بالإيمان بعد الإكرام بالخلق في أجمل وأحسن تقويم، وكيف تكون انتكاسة هذا الإنسان بنفسه إلى أسفل سافلين بالبعد عن الإيمان -بعد أن أكرمه الله بحسن الخلق وكرمه في القيمة والمقام-.
فالموضوع الرئيس للسورة والمحور الأساسي لها هو إخبار الله لنا ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) ﴾.
كل ما خلق الله جل وعلا من مخلوقات فقد أحسن وأبدع خلقها، وفوق هذا الخلق والإبداع العظيم خلق الإنسان في أجمل وأحسن خلقه، وطوَّع له باقي المخلوقات.
وقد ورد ذلك في غير من مكان في القرآن بتخصيص الإنسان بحسن التركيب، وحسن التقويم، وحسن التعديل، إذ يقول في سورة الانفطار: ﴿ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِیمِ (٦) ٱلَّذِی خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِیۤ أَیِّ صُورَةࣲ مَّا شَاۤءَ رَكَّبَكَ (٨) ﴾، هنا يسأله ما غرّك بالذي ركبك وأحسن خلقتك، وفي التين يربطه بالإيمان ويسأله فما يكذبك بعد بالدين، الأمر الذي يبين الله فيه عناية خاصة بهذا المخلوق.
وإقسام الله في بداية السورة بالأماكن المقدسة التي خصها الله سبحانه وتعالى بإنزال الوحي على أنبيائه وجعلها قبلة للمسلمين، والتي رمز لها بالتين، ويقصد بالتين دمشق وهي مهاجر إبراهيم عليه السلام، والزيتون ويقصد بها مكان ولادة سيدنا عيسى عليه السلام، وطور سينين ويقصد به جبل الطور الذي كلم الله سبحانه وتعالى موسى، والبلد الأمين وهي مكة المكرمة بلد الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام. وفي هذا دلالات عظيمة وربط إلهي قد يكون من معانيه أن ثلاثة هذه الأماكن نزل فيها وحي الديانات المختلفة، وكأنه يخبرنا أن ذلك الوحي جميعه يدور حول حقيقة واحدة وهي الإيمان، وقد قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: فقوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) ﴾ إقسام منه بالأمكنة الشريفة المعظمة الثلاثة التي ظهر فيها نوره وهداهُ، وأنزل فيها كتبه الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن. (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 5/207)
أحسن تقويم
قف عند قوله ﴿أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ وأطلق لنفسك وعقلك العنان للتفكر في حسن خلق الإنسان، الذي هو جزء من خلق الله الحسن بالجمال في الإجمال، ليقف ويرتد إليك العقل حائرًا عاجزًا عن الإحاطة بأسرار جمال وحسن ودقة وآيات خلق الإنسان، ﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ [الذاريات: 21].
قال أبو بكر بن طاهر: مُزينًا بالعقل، مؤديًا للأمر، مَهديًا بالتمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيده، وقال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن اللّه خلقه حيًا، عالمًا، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا (تفسير القرطبي 20/114).
وهذا التخصيص بالعناية بالخلق، يجعل للإنسان من بين المخلوقات على ما فيه من تنمر وضعف وانحراف مكانًا وقدرًا وشأنًا مختلفًا، ووزنًا عظيمًا في نظام هذا الوجود.
وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق، سواءً في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد، أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الروحي العجيب.
والخلقة البدنية يستوي فيها الكافر والمؤمن، بل والدواب، كونها مادية بحتة، تتقوى بالطعام والشراب، وتتلف وتضعف بما يضرها، ويستوي في ذلك المسلم وغير المسلم،بخلاف الروح فإنها تنتكس إلى أسفل سافلين، بل إلى ما دون وتحت مستوى الدواب، والتي تسبِّح ربها وتذكره، وذلك حين يبتعد هذا الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم عن الإيمان والفطرة والعلاقة بالله، وترتقي هذه الروح التي خلقت بأحسن تقويم لتكون فوق مستوى الملائكة بالإيمان.
ولذلك أعطاه الله كل الأدوات من الخلق الحسن والعقل الصحيح الذي يميز به، وأرشده إلى الطريق بالرسول والكتاب ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ﴾، وخيَّره إما الإيمان والعمل الصالح الذي يرتقي به، وإما الانتكاسة والعيش في أسفل سافلين.
فما يكذبك؟!
وهنا وأمام هذه الحقيقة تظهر للمؤمن كيف كانت البداية بأحسن خلق، والنهاية إما بالعيش بأعلى الجنان أو أسفل سافلين.
ويظهر له أن الوسيلة الوحيدة للنجاة من أسفل سافلين والعيش في عليين، هو الإيمان الذي هو الدين ولا غيره، الدين الذي يتوافق مع الفطرة السليمة التي خلق عليها الإنسان بأحسن تقويم.
ولذلك يقرع بقوله: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)﴾ ؟
هذا طريق الإيمان، وهذا طريق الخسران، هذا طريق السعادة وهذا طريق الشقاء أمامك، ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)﴾ ؟ أليس هذا قمة العدل؟ أن يخلقك في أحسن تقويم، ويرشدك إلى الطريق المستقيم الموصل إلى جنات النعيم، ويعطيك الأدوات والإمكانات، ويريك هذا الطريق الموصل للجنة، وذاك الموصل للشقاء والنار، ثم يأتي بعد ذلك من يعرض عن طريق الإيمان ويختار طريق الكفر والعصيان، وقد حذر منه، فإذا عُذِّب وأصبح في أسفل سافلين حينها، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)﴾.
لفتات وهدايات
ومن اللفتات كذلك، أنه قرن بين الإيمان والعمل في قوله ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ﴾ فلا إيمان بلا عمل، ولا عمل بلا إيمان، ولا يكون الإسلام الذي أنزله الله بالدنيا، إلا بهما، ولا تكون النجاة في الآخرة إلا بهما، وفي هذا من التوضيح والتوبيخ لمن يفصلون بينهما، ومن التناقض الفصل بين الإيمان والعمل أو أن تسمي نفسك مؤمنًا ولا تقوم بلوازم الإيمان وهو العمل؟!، ذلك أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ومن اللفتات في هذا السياق في السورة نفسها، حين قرن بين الإيمان والعمل، أنه وصف هذا العمل بالعمل الصالح ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وهذا فيه دلالة على أن هذا الدين دين منزَّل، غير خاضع للأمزجة والأهواء والبدع، إذ ليس أي عمل في العبادات يقبل مالم يكن مشروعًا، ولا يكون العمل مشروعًا إلا إن كان لله، ووفقًا لمراد الله، وعلى هدي رسوله عليه الصلاة والسلام.
فإن صح العمل ترتب عليه الأجر، وليس مجرد أي أجر، لا بل قال جل وعلا: ﴿فلهم أجر﴾، نكّر الأجر لعظم الأجر والمثوبة، ولم يقل فلهم الأجر.
وزاد ذلك عظمة وإجلالًا، حينما وصفه بأنه ﴿أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ أي غير منقطع، دائم لا يتوقف، يتجاوز الدنيا إلى الآخرة، ليصل بالمؤمن أن ذلك الأجر الذي لا ينقطع هو جنة الخلود الأبدي.
وانظر إلى الترابط الذي بين أول السورة وآخرها: في أولها أقسم سبحانه وتعالى بأشياء من خلقه، للفت النظر إلى الخلق الجميل البديع، والصنع العجيب له سبحانه وتعالى في الإنسان وفي المكان، وكل هذا من الدلائل على حكمه وحكمته سبحانه وتعالى، وبديع صنعه وجمال خلقه، لو تفكرت في ذلك، فَــ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) ﴾ بلى. وإنا على ذلك من الشاهدين ■