آخر تحديث :الأربعاء-04 يونيو 2025-01:17ص

مجلة جرهم


هدايا النقد الذاتي

هدايا النقد الذاتي

الأربعاء - 28 مايو 2025 - 01:09 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ أ.د.فؤاد البنا ــ أكاديمي وباحث في الفكر الإسلامي

مــدخـــــــل
يمكن القول بأن هناك ثلاث مراحل أساسية لكل مشروع يريد النجاح، كان صغيرًا أو كبيرًا، فرديًا أو اجتماعيًا، هذه المراحل الثلاث هي:
- الأولى: مرحلة التخطيط العلمي الدقيق، والذي يحدد الأهداف ويراعي الإمكانات والإكراهات ويستشرف الصعوبات والمآلات ويخطط لتجاوزها بنجاح.
- الثانية: مرحلة التنفيذ العملي الحكيم والمتسلح بالإرادة والإدارة، مع إجادة توظيف الإمكانات والخبرات، وحسن التعامل مع المستجدات والمفاجآت من غير تهويل أو تهوين.
- الثالثة: مرحلة المراجعة الواعية والصارمة للماضي بعد السير في المشروع كل برهة من الزمن، بغرض معرفة نقاط القوة لتعزيزها وتعظيمها، ونقاط الضعف لمعالجتها وتجاوزها، وتزويد المخطِّط بخبرات تجعله أكثر دقة وإحكامًا في التغذية الراجعة، وما يدور في هذه المرحلة هو عين ما نسميه في عصرنا بالنقد الذاتي!
النقد بين الإسلام والمسلمين:
ومثل كثير من التباينات في حياة مسلمي عصرنا هذا، نجد البون شاسعًا في هذه القيمة بين ما هم عليه في واقعهم، وما ينبغي أن يكونوا عليه كملتزمين بتعاليم دينهم؛ حيث أخذ النقد في عقول أكثر المسلمين صورة سلبية شديدة القتامة، وارتبط في ذهنية المسلم المعاصر بالتشكيك والإرجاف، وتم الخلط بين نقد الرأي أو الشخص وبين عدم الثقة بالفكرة والتشكيك بنيات الأشخاص المنقودين؛ مما حول النقد من أداة لاكتشاف الأخطاء وتصحيحها، ومن وسيلة لتقويم الاعوجاجات وتقوية المناعة الاجتماعية، إلى سلاح لإثارة الفوضى وإشاعة الخلاف، مما زاد المسلمين ضعفًا على ضعف.
وعندما نتأمل آيات القرآن نجد أن النقد ورد في العديد من آياته بمسميات عديدة، مثل: المراقبة الذاتية، والمحاسبة النفسية، والتقوى، والتوبة، وإذا جاء من المسلم الآخر فيسمى بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن مرآة أخيه، وسمى النقد الذي يأتي من الذات تقوى وتوبة، والذي يأتي من الشقيق (نصيحة)، ولعظم أهميته -إيجابًا- وشدة خطورته -سلبًا- فقد اختزل عليه السلام الدين كله في النصيحة، حينما قال: "الدين النصيحة"؛ ذلك أن منظومة المجتمع تختل من دون تفعيل فريضة النصيحة.
ويكفي أن نعرف في هذا المقام أن القرآن الكريم أوجب على المؤمنين أن يذهبوا إلى محاسبة الذات في كل ما يتعرضون له من مصائب، فقال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، بمعنى أن عليهم امتلاك هذا الإيمان الذي يدفعهم إلى البحث عن معاقد القصور في التصورات ومواطن التقصير في التصرفات كلما أصابتهم مصيبة، ذلك أن النقد هو السبيل لتصحيح الأخطاء وتقويم الاعوجاجات، ولاستكمال النقص واستيفاء الأسباب المطلوبة لتحقيق الأهداف المنشودة على الوجه الأمثل.
الحاجة الماسة
وبحسب استقرائي لآيات القرآن الكريم المتصلة بالنقد، فإن الحاجة تشتد للنقد الذاتي في الانعطافات الكبرى التي تهتز فيها الذات وتظهر عيوبها البشرية، وخاصة عند أمرين:
- الأول: الوقوع في الهزيمة:
فقد ربّى الله تعالى المؤمنين بطريقة عملية في موقعة أحد، حينما انهزم جيش المسلمين في الشق الثاني من المعركة، بعد أن ذاقوا حلاوة النصر، وتساءل الصحابة عن مصدر الهزيمة وسببها، فرد الوحي بتحميلهم مسؤولية ما حاق بهم، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، ثم تتابعت التعقيبات لتشير إلى مواطن الخلل وعوامل الهزيمة.. ولم يكن هذا الدرس نظريًا، بل درسًا عمليًا وكانت ضريبته فادحة؛ من أجل ألا ينسى المؤمنون في كل زمان ومكان حقيقة أن سنن الله لا تحابي أحدًا، ويدركوا أن ضريبة مخالفة توجيهات الله باهظة الثمن، فقد كُسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم وشُجّ وجهه الشريف ووقع في الحفرة التي صنعها أحد المجرمين، واستشهد سبعون من خيرة الصحابة على رأسهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب وحامل اللواء مصعب بن الزبير!
- الثاني: الحصول على النصر:
كما يستيقظ الضعف البشري في حالة الهزيمة والإخفاق، فإن الغرور البشري ينتفض في حالة النصر على الأعداء؛ ولذلك دعا القرآن الكريم المؤمنين إلى إلجام النفوس وممارسة بعض صور النقد الذاتي وبالتحديد التسبيح والاستغفار عند الحصول على النصر، والتربية هنا من خلال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في مثال الهزيمة، فقد ورد الخطاب له في سورة سماها الله (النصر)، فقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}، ولكن مم تكون التوبة في هذا المقام؟
التوبة من انبعاث مشاعر القوة والغرور واستيقاظ غرائز الكبر والطغيان، وبروز الرغبة في ممارسة الثأر من الظالمين ومن معهم، والتي قد تطيش بأصحابها وتجعلهم يرتكبون مظالم وحماقات في حق من انتصروا عليهم، ولهذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل مكة مطأطئًا رأسه على أكمل صور التواضع بعد أن نهى عن قتل أي أحد إلا بضعة أشخاص سماهم من كبار مجرمي الحرب، ثم أعلن العفو العام عن الجميع!
بلسم الضعف البشري:
من المعلوم أن الله خلق الناس من قبضة من طينة الأرض ونفخة من روح السماء، ويظل الإنسان بسبب هذه التركيبة المزدوجة يتردد طيلة حياته بين الانحطاط الطيني والسمو الروحي، فمن شوائب التراب وآثار الطين تنبعث بحسب القرآن الكريم العديد من الآفات والعلل، وأهمها: الضعف والنسيان، والظلم والطغيان، والطمع والأثرة، والخوف والجزع، والشح والبخل، والجحود والنكران، ثم إن الإنسان محدود القوى والقدرات، ويعاني من محدودية الحواس وضيق الأفق، ومن ثم فإنه لا يستطيع رؤية مختلف الزوايا، ورغم ذلك فإنه يميل إلى ادعاء العلم والمعرفة واحتكار الحقيقة المطلقة!
ومن ثم فإن النقد الذاتي في حال تفعيله فرديًا واجتماعيًا، بإمكانه أن يتيح الفرصة لرؤية الحقائق من زوايا متعددة، ويمنح القيم الثنائية تكاملًا يمنع التضاد، ويوضح المفاهيم الملتبسة على بعض الناس، ويساعد في تصحيح الأخطاء وتقويم الاعوجاجات، ويسهم في تذكير الناسين وتنبيه الغافلين، وفي تعليم الجاهلين وهداية الضالين، وفي إعانة الضعفاء وتكميل الناقصين، ومن ثم ترتفع فاعلية الأفراد في كل المجالات لتصبح إنتاجية المجتمع عالية جدًا، سواء من الناحية الكمية أو الناحية الكيفية..
تجسيد مجتمع الصحابة للنقد الذاتي:
يمثل مجتمع الصحابة الجيل الذهبي للأمة المسلمة في سائر التصورات والتصرفات، وبهذا الصدد فقد وجدنا أنه قد جمع بين تآلف أفراده وبين تناصحهم بكل صراحة وأدب؛ تذكيرًا لمن نسي وتنبيهًا لمن غفل، وتعليمًا لمن جهل وإرشادًا لمن ضل، وتقويمًا لمن اعوجّ وتصحيحًا لمن أخطأ، ولم تكن النصيحة تفسد للود قضية، بل تزيد من قوة التكاتف والتلاحم الذي شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالجسد الواحد؛ حيث برز الإيثار على حساب الأثرة، وساد العدل على حساب الظلم، وشاع الحب على حساب الكراهية، وتوثق التعاون على حساب التباين، وسادت لدى الأفراد قيم التقوى والمراقبة ومحاسبة الذات والتوبة من الأخطاء، لدرجة أن عمر بن الخطاب حينما عينه أبو بكر الصديق في خلافته قاضيًا على المسلمين، ظل عامًا كاملًا دون أن يأتيه مشتكيان، فقدّم استقالته للخليفة وباشر عملًا آخر..
وفي الإطار الجماعي كان طرفا النصيحة على قدر المسؤولية، إذ لم يقدم أحد من الصحابة نصيحته في ثوب خلق أو يرسلها بخشونة تجعل المنصوح يتوجس منها خيفة، ولم يكن أحد منهم يرفض النصيحة أو يتأبّى على الناصحين؛ بل كان يعتبرها إحسانًا يستحق الشكر وهدية تستحق الحفاوة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي".
وفي ما يتعلق بالحاكم والمحكومين فقد حضّ عمر رعيته على إطلاق النصيحة في كل وقت، وذلك بأساليب وعبارات مختلفة، ومما قاله في هذا الشأن: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها"، أي إنه لم يجعل النصيحة حقًا من حقوق المواطنة وإنما واجب من واجباتها؛ إذ إن عدم قيام المجتمع بها يعد برهانا على انعدام الخيرية فيه.
أمنية
وأخيرا نرجو أن يصير لسان حال الناقدين قول الشاعر:
شـهـد الله ما انتقدتـك إلا
طمـــــعًا أن أراك فـوق انـتــقــــــــاد
وبالطبع فإن ذلك سيحدث بلا شك، ولكن حينما تتغير النظرة للنقد من الناقدين والمنقودين معًا، بحيث يحمل الناقد روح الطبيب في معالجته لمرضاه: حرصًا وحبًا وشفقة وحكمة، ويحمل المنقود روح من أُهديت له عطية يحبها: فرحًا وحفاوة وشكرًا، ومن المؤكد أن الناقدين يتحملون مسؤولية أكبر بهذا الصدد، حيث إن نقدهم الذي يَعدّونه هدية، يجب أن يكون متلفعًا برداء الحكمة الجميل ■