آخر تحديث :الأحد-01 يونيو 2025-12:08ص

مجلة جرهم


لسانٌ عربي.. الفهم اللغوي في تفسير القرآن

لسانٌ عربي.. الفهم اللغوي في تفسير القرآن

الأحد - 01 يونيو 2025 - 12:08 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. محمد عصام المقداد ــ أستاذ اللغة العربية بالجامعة الأمريكية المفتوحة - سوريا

مقدمة
القرآن الكريم كتابُ الله المعجزُ الذي أنزله لهداية البشرية، يحمل في آياته الحكمة والتوجيه لجوانب الحياة كافةً، بلسان عربي مبين، فكان فهمُ النصوص القرآنية مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بإتقان العربية ومعرفة معانيها وتراكيبها وقواعدها وأساليبها، فاللسان العربي وعاء عظيم يحمل المعانيَ العميقة والدلالات التي تفسر آيات الكتاب العزيز، وسنعرض نبذةً تبرزُ أهمية الفهم اللغوي في تفسير القرآن، وتوضيح المعاني، وإزالة الإشكالات، ونعرِّج على أمثلة عملية تبيِّنُ ذلك.
ويتطلب تفسير القرآن الكريم إتقانًا للعربية بعلومها المختلفة، كالنحو والصرف والبلاغة، لضمان استنباط المعاني الدقيقة وتجنب التأويل المنحرف، لتقترب الأذهانُ من فهم آي الكتاب العزيز، ويُعرَّف الاتجاه اللغوي في التفسير بأنه «بيان معاني القرآن بما ورد في لغة العرب»، إذ اختار الله سبحانه وتعالى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم عربيًّا، ومن السنن أن ينزل كتابه بلسان قومه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا ‌بِلِسَانِ ‌قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].
ديوان العرب
وقد تصدى بعض الصحابة رضي الله عنهم لعلم التفسير باعتماد الفهم اللغوي، إذ سأل عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه عن معنى قوله سبحانه: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]. فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا؛ التخوف: التنقص، فقال عمر: أتعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، يقول شاعرنا أبو كبير الهذلي:
‌تَخَوَّفَ ‌الرَّحْلُ ‌منها تَامِكًا قَرِدًا
كما تَخَوَّف عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإنَّ فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
وصار بعض الصحابة إمامًا في هذا المنهج من التفسير، كعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، إذ أخرج عنه البيهقي في السنن الكبرى أنه قَالَ: «إِذَا قَرَأَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ ‌فَلَمْ ‌يَدْرِ ‌مَا ‌تَفْسِيرُهُ فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي الشِّعْرِ، فَإِنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَبِ»، ولا أدل من مسائل نافع بن الأزرق على ذلك، ونسوق منه أمثلة:
- قال: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: ﴿يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ ‌لِبَاسًا ‌يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا﴾ [الأعراف: 26]. قال ابن عباس: الرياش: المال. قال ابن الأزرق: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر وهو يقول:
فَرِشْني بخيرٍ طالما قد بَرَيْتَني
وخير الموالي مَن يَريش ولا يَبري
قال: يا ابن عباس: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿‌شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ ﴾ [الرحمن: 35]. قال: الشّواظ: اللهب الذي لا دخان له. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أمية بن أبي الصلت يهجو حسّان بن ثابت وهو يقول:
ألا من مبلغ حسّان عنّي
مغلغلة تدبّ إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قينًا
لدى القينات فسلًا في الحفاظ؟!
يمانيًّا يظلّ يشدّ كيرًا
وينفخ دائبا لهب الشّواظ
فأجابه حسّان بن ثابت:
أتاني عن أميّ ثنا كلام
وما هو في المغيب بذي حفاظ
ستأتيه قصائدُ مُحْكَماتٌ
وتُنشَدُ بالمجازِ إلى عكاظِ
همزتُك فاختضعت بذلِّ لفظ
بقافيةٍ تأجّجُ كالشّواظ
لغات القبائل
ثم ظهر في أتباع التابعين نفرٌ من اللغويين شاركوا في التفسير اللغوي؛ كالكسائي والفراء وقطرب والأخفش سعيد، فكانوا يستدلُّون بلغة العرب في تفسير اللفظة القرآنية، إما استشهادًا بالشعر على منهج عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وإما استشهادًا بالنثر بأن ينصوا على لغة القبيلة التي نزل القرآن بلفظها، أو يرجعوا إلى منثور كلامهم ولا ينصوا على لغة قبيلة معينة.
ومن ذلك كتاب «لغات القبائل الواردة في القرآن الكريم» المنسوب إلى أبي عبيد، وإليك نموذجًا منه:
- {‌دَارَ ‌الْبَوَارِ ﴾ [إبراهيم: 28] يعني دار الهلاك بلغة عُمان.
- {‌أَفْئِدَةً ‌مِنَ ‌النَّاسِ ﴾ [إبراهيم: 37] يعني ركبانًا من الناس بلغة قريش.
- {‌مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ﴾ [إبراهيم: 43] ناكسي رؤوسهم بلغة قريش.
- ﴿مِنْ حَمَإٍ ‌مَسْنُونٍ﴾ [الحجر: 26] الحمأ الطين المسنون المنتن بلغة حمير.
- {‌دَابِرَ ‌هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ﴾ [الحجر: 66] مستأصل بلغة جرهم.
- {‌لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: 75] للمتفرسين بلغة قريش.
- {‌تُسِيمُونَ﴾ [النحل: 10] ترعون بلغة خثعم.
- {‌ظَلَّ ‌وَجْهُهُ﴾ [النحل: 58] صار بلغة هذيل.
- ﴿ ‌بَنِينَ ‌وَحَفَدَةً﴾ [النحل: 72] الحفدة الأختان بلغة سعد العشيرة.
- {‌وَهُوَ ‌كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ ﴾ [النحل: 76] عيال بلغة قريش.
- {‌سَرَابِيلَ ‌تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: 81] القمص بلغة تميم.
- {‌وَسَرَابِيلَ ‌تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾ [النحل: 81] يعني الدروع بلغة كنانة.
- {‌قَانِتًا﴾ [النحل: 120] إمامًا يقتدون به بلغة قريش.
تعدد المعاني
من الظواهر الفريدة في اللغة العربية أنَّ الكلمة الواحدة قد تحمل معانيَ متعددة تعتمد على سياقها واستعمالها، وهذا التعدد كان له أثر واضح في فهم النصوص القرآنية. فكلمة مثل "العين" قد تُستخدم للدلالة على العين الباصرة، أو عين الماء، أو عين الذهب. هذا التعدد يفتح أبوابًا واسعة للتفسير، إذ يختار المفسر المعنى الذي يتناسب مع السياق القرآني.
فمثلًا، قوله تعالى: ﴿وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ﴾ [يس: 34] يشير إلى عيون الماء، بينما قوله: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر: 14] يُفهم بمعنى الرعاية والحفظ. لذا، فإنَّ الإلمام بمعاني الكلمة في سياقاتها المختلفة يساعد في إزالة اللبس ويوفر تفسيرًا دقيقًا للنصوص.
المجاز واستخداماته
المجاز أحد الأساليب البلاغية التي أبدعت فيها اللغة العربية، وكان له أثر كبير في إبراز الإعجاز القرآني وتوضيح معانيه، وهو عند البلاغيين: «اللفظ المستعمل في غير ما وُضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي»، والعلاقة: هي المناسبة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، وقد تكون «المشابهة» بين المعنيين، وقد تكون غيرها، وله أنواع منها: المجاز اللغوي والمجاز العقلي.
وقد استخدم القرآن المجاز ليقرب الفكرة إلى الأذهان ويخلق تأثيرًا بالغًا في النفوس، كقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 24]، استخدم المجاز للتعبير عن التواضع والطاعة، إذ لا يُقصد بالجناح هنا المعنى الحرفي بل هو تصوير بليغ لتوضيح المقصود.
ومن سنن العرب الحذف والاختصار، وهو من المجاز العقلي، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ ‌الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أراد أهلَ القرية، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ومن أمثلته أيضًا: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء: 75] أي ضعفَ عذابها.
ومن سنن العرب المندرجة تحت المجاز أيضًا إضافة الفعل إلى ما ليس فاعلًا في الحقيقة مثل قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا ‌جِدَارًا ‌يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 77] فالجدار لا تقع منه إرادة، والمعنى المفهوم: يوشك أن ينقضَّ.
وربما عبَّرَت العربُ باستخدام الفاعل وهي تريد المفعول، فتقول: سرٌّ كاتمٌ، أي مكتوم، وفي القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿قَالَ ‌لَا ‌عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ﴾ [هود: 43] أي لا معصوم، وقوله سبحانه: ﴿خُلِقَ مِنْ ‌مَاءٍ ‌دَافِقٍ ﴾ [الطارق: 6] أي مدفوق، وقوله عزَّ من قائل: ﴿فَهُوَ فِي ‌عِيشَةٍ ‌رَاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: 21] أي مرضيٍّ بها، وكذلك قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا ‌حَرَمًا ‌آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67] أي مأمونًا فيه.
فإن فهم أساليب المجاز وتفسيرها على وفق السياق يسهم في توضيح النصوص واستنباط الأحكام منها.
الاشتقاق والفهم اللغوي
يُعدُّ علم الاشتقاق من أعمدة الفهم اللغوي التي تسهم في استيعاب دلالات الألفاظ القرآنية، إذ يساعد على تتبع أصل الكلمة ومعرفة معانيها المتعددة، ففي قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء: 153] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ كما يذكر الطبري على أقوال، ملخَّصُها:
• قَالَ بَعْضُهُم: مَعْنَاهُ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمَسْحُورِينَ.
• وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: كُلُّ مَنْ أَكَلَ مِنْ إِنْسٍ أَوْ دَابَّةٍ فَهُوَ مُسَحَّرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ سَحْرًا يَقْرِي مَا أَكَلَ فِيهِ، وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ نَحْوَ هَذَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أُخِذَ مِنْ قَوْلِكَ: انْتَفَخَ سَحْرُكَ: أَيْ أَنَّكَ تَأْكُلُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، فَتُسَحَّرُ بِهِ وَتُعَلَّلُ، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ يُعَلَّلُونَ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِثْلَنَا، وَلَسْتَ رَبًّا وَلَا مَلَكًا فَنُطِيعَكَ وَنَعْلَمَ أَنَّكَ صَادِقٌ فِيمَا تَقُولُ.
• وَالْمُسَحَّرُ: الْمُفَعَّلُ مِنَ السَّحَرَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَهُ سَحَرَةٌ.
• وزاد غير الطبري قولًا آخر: المسحَّر هو المسحور مرة بعد مرة، فتشديد الحاء للتكثير.
فواضحٌ من هذه الأقوال أنها بُنيت على الاشتقاق، ‌ويشهد لذلك ويؤكده قول ابن فارس: السِّينُ ‌وَالْحَاءُ ‌وَالرَّاءُ أُصُولٌ ثَلَاثَةٌ مُتَبَايِنَةٌ: أَحَدُهَا عُضْوٌ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْآخَرُ خَدْعٌ وَشِبْهُهُ، وَالثَّالِثُ وَقْتٌ مِنَ الْأَوْقَاتِ.
فَالْعُضْوُ السَّحْرُ، وَهُوَ مَا لُصِقَ بِالْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ مِنْ أَعْلَى الْبَطْنِ. وَيُقَالُ بَلْ هِيَ الرِّئَةُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَالسِّحْرُ، قَالَ قَوْمٌ: هُوَ إِخْرَاجُ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَيُقَالُ هُوَ الْخَدِيعَةُ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا … عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ
كَأَنَّهُ أَرَادَ الْمَخْدُوعَ، الَّذِي خَدَعَتْهُ الدُّنْيَا وَغَرَّتْهُ. وَيُقَالُ الْمُسَحَّرُ الَّذِي جُعِلَ لَهُ سَحْرٌ، وَمَنْ كَانَ ذَا سَحْرٍ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ مَطْعَمٍ وَمَشْرَبٍ.
الإعجاز اللغوي
القرآن الكريم ليس مجرد نص لغوي، بل هو معجزة لغوية بيَّنت وجوه الإعجاز في كل كلمة وحرف. ومن ذلك الإعجاز الذي يظهر في الأحكام الفقهية التي استُنبطت من القرآن.
على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ [المائدة: 38]، حيث استخدم التعبير بالفعل "اقطعوا" للدلالة على الجزاء الرادع، ولم يقل "افصلوا" أو "ابتروا"، مما يوحي بأن الأمر يتجاوز مجرد البتر إلى القطع المقرون بالحكمة والتقدير. هذا الإعجاز اللغوي يفتح آفاقًا لاستنباط التشريعات وفهم عمق النص القرآني.
ويقوم الفهم اللغوي للقرآن الكريم على أعمدة منها: مباحث الصرف والاشتقاق، ومباحث النحو، وكثرة الاستشهاد بلغة العرب ولا سيما الشعر، وبيان الأساليب العربية الواردة في الكتاب العزيز، وقد تفوق في بيان ذلك نفر من أئمة اللغة كشيخ النحاة سيبويه، والإمام أبي الفتح عثمان بن جني، وشيخه أبي علي الفارسي وسواهم من الأئمة عبر القرون المتتابعة.
وللفهم اللغوي أثره البارز في استنباط الأحكام من القرآن وفهم تفاصيلها، وسنضرب مثالًا آية الوضوء، ونقف عند اثنين من جوانبها فقط، إذ لا يتسع المقام لمناقشة جميع التفاصيل، قال تعالى:
﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا ‌بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: 6]
أولًا: دلالة الباء في ﴿وَامْسَحُوا ‌بِرُءُوسِكُمْ﴾ وأثر ذلك فيما يجب في الرأس:
للباء معان كثيرة، منها: الظرفية، والسببية، والاستعانة، والتعدية، والإلصاق، والتبعيض، والاستعلاء، والغاية، والتوكيد... إلخ
وعند بعض النحاة أن الإلصاق معنى لا يفارقها، لهذا اقتصر عليه سيبويه في «الكتاب»، واختلفوا في معنى الباء من قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا ‌بِرُءُوسِكُمْ﴾، فقيل: للإلصاق، وقيل: للتبعيض، وقيل: زائدة، وقيل: للاستعانة. فاختلف الأئمة الفقهاء في قدر الواجب من مسح الرأس تبعًا للاختلاف في معنى الباء.
فمنهم من جعل قدر الواجب من مسح الرأس بعضه، كالشافعي وأبي حنيفة، وأما مالك وابن حنبل على المشهور منهما فأوجبا مسح الرأس كله.
ومن الشواهد التي تذكرها كتب النحو في مجيء الباء للتبعيض قوله:
شربن بماء البحر ثم تدفقت... متى لجج خضر لهن نئيج
ومن أهل اللغة من قال: إن الباء في الآية زائدة للتوكيد.
ثانيًا: توجيه قراءتَي ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ بالنصب والجر:
قرئت ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ بالنصب والجر وهما قراءتان متواترتان؛ فأما النصب فلأنه عطف "أرجلكم" على ﴿وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾، والمعنى: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم، وبهذا قال ابن عباس.
وأما قراءة الجر فقال بعضهم: إنها من باب الجر على الجوار، على حد قولهم: "هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ" بجر "خربٍ" مع أنه نعت لـ"جحرُ" المرفوع.
وقال آخرون: إنَّ الأرجل معطوفة على الرؤوس؛ لعلة التقارب في المعنى، إذ إن كلًّا منهما إمساس اليد بالعضو، والمسح يمكن أن يطلق في اللغة على الغسل الخفيف، فقد قال أبو زيد: المسح خفيفُ الغسل، لقول العرب: تمسحتُ للصلاة بمعنى توضأت لها.
وذهب آخرون إلى أن القصد بالمسح المسحُ على الخفَّين الذي بيّنته السّنة، ولذلك لم تُكرَّر الباء التي للإلصاق، فمسح الرأس يكون بإلصاق اليد، ولكن مسح الأرجل يكون بحائل هو الخف.
وختامًا
بهذا يظهر جليًّا أثر الفهم اللغوي في توجيه الأحكام الفقهية المستنبطة من القرآن، وأثره كذلك في اختلاف الفقهاء في الفروع الذي يُعدُّ رحمةً وتوسيعًا على الأمة، فالفهم اللغوي هو الأداة الأولى لفهم كلام الله عز وجل وتدبر آياته واستنباط أحكامها، لأن العربية هي الوعاء الذي حمل الإعجاز القرآني، وبها يتجلى عمق المعاني ووضوح الأحكام وتفصيل التشريعات.
إن الفهم اللغوي أوسع من كونه علمًا نظريًّا، بل هو واجب لمن أراد أن يتعاطى النصوص القرآنية بفهم سليم، يزيل الإشكالات، ويوضح المعضلات، ويقرب العقول من الكتاب العزيز، وقد أثبت العلماء على مر العصور أن التفسير القائم على أسس لغوية سليمة هو الطريق إلى استنباط الأحكام وتجنب الانحراف في التأويل، مستندين إلى علوم النحو والصرف والبلاغة والشعر العربي، فكما كان الصحابة والتابعون أعلامًا في هذا المجال، استمر أثرهم ليكون دافعًا للأمة نحو التمسك بلسانها، لسان الوحي المحفوظ، ومن أجل ذلك كلِّه تمسُّ الحاجة إلى تعميق دراسة علوم العربية، للوصول إلى فهم القرآن العربي المبين، ولا سيما أن الفهم اللغوي مفتاح لخزائن هذا النور الرباني الواسع■