آخر تحديث :الأربعاء-04 يونيو 2025-01:17ص

مجلة جرهم


أمم أمثالكم.. التشابه في الخلق والغاية

أمم أمثالكم.. التشابه في الخلق والغاية

الأربعاء - 04 يونيو 2025 - 01:17 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ فارس عثمان ــ طالب علم شرعي

بيانٌ وتفسير
لقد أعطى ربنا كل شيءٍ خلقه ثم هدى، وقد كان من حكمة الله في خلقه التشابه والاختلاف في الطابع والطبائع، وفي حين ميز الله الإنسان عن باقي الأمم بالعقل وسخر له كل شيء، فقد جعل بينه وبين الأمم الأخرى تشابهًا واضحًا في الحكمة والتصرفات والخلق والغاية وأنظمة الحياة، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، قال ابن عباس في رواية عطاء: ": {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني" مثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه} [الإسراء: 44]، قال الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: "جعلها أجناسًا مجنسة، وأصنافًا مصنفة، تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سخرت له كما تتصرفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومثبت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب".، وقال الإمام القرطبي في كتابه "الجامع لأحكام القرآن": {إلا أمم أمثالكم} أي: هم جماعات مثلكم، خلقهم الله، وتكفل بأرزاقهم، وعدل عليهم، فلا ينبغي أن تظلموهم، ولا تتجاوزوا فيهم ما أمرتم به". وقال الزجّاج: {أمم أمثالكم}: في الخلق، والرزق، والموت، والبعث، والاقتصاص، وقال السيوطي في تفسيره "الجلالين": {إلا أمم أمثالكم} قال: "في تدبير خلقها، ورزقها، وأحوالها"؛ فالطيور والدواب مثل بني البشر من حيث أن الله رازقهم، ومحييهم، ومميتهم، ومن حيث الطبـــــاع والسلوك والأخلاق.
مادة الخلق
{وَالله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ إِنَّ الله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45]
وهذه الحقيقة الضخمة التي يعرضها القرآن بهذه البساطة‏، حقيقة أن كل دابة خلقت من ماء‏، قد تعني وحدة العنصر الأساسي في تركيب الأحياء جميعًا‏، وهو الماء‏..‏. فهي ذات أصل واحد‏.، ثم هي -كما ترى العين- متنوعة الأشكال‏، منها الزواحف تمشي علي بطنها‏، ومنها الإنسان والطير يمشي على قدمين‏، ومنها الحيوان يدب على أربع‏، ففي وحدة مادة خلق الأحياء -وهي هنا الماء- تؤكد وحدانية الخالق ‏سبحانه وتعالى، الذي أشرك به كثير من الجهال الضالين في القديم والحديث‏، ‏‏وفي البناء المعقد لأجساد الكائنات الحية من الماء شهادة لله‏ ‏بطلاقة القدرة المبدعة في الخلق‏، وشهادة بقدرته ‏سبحانه وتعالى‏ على إفناء خلقه وعلى إعادة بعثهم.
التشابه والمماثلة
وقال سفيان بن عيينة: "ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم" فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام عافته، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه؛ فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمه لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل ترواه وحفظه، قال الخطابي: ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة، وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة وذلك ممتنعٌ من جهة الخلقة والصورة، وعدمٌ من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون منصرفًا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك "انتهى كلامه"..
وفي الآية التي يدور حولها محور حديثنا ذكر الله وما من دابة في الأرض، والدابة تطلق في اللغة على كل ما دب على الأرض، سواء كان ممن يمشي على رجلين أو أربع أو على بطنه من الأنعام والحيوانات، وغيرها كالحمير والكلاب والعنكبوت وغيرها، والبعض يعُدّ الإنسان من هذه الدواب في حين يستثنيه القرآن عنها في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}، وليست هذه الفكرة التي نريد إيصالها بقدر ما نريد التمهيد لإيضاح بعض التشبيهات التي أوردها القرآن الكريم لأنواع من الناس خرجوا عن هدي الله في سُلوكياتهم الفردية فشابهوا تلك الدواب في تصرفاتها وأساليبها شرحًا لخروج الإنسان عمَّا يجب أن يكون عليه من عمل والتزام وغاية خلقه الله لأجلها من جانب، وتبيانًا وتوضيحًا لحياة المشبه به من تلك الحيوانات والدواب وإعجاز الله فيها من جانب آخر، ومن تلك التشبيهات القرآنية هذا المثلُ ضربه الله عزَّ وجلَّ في رجل آتاه الله العلم والحجج والآيات، ولكنه آثر الدنيا وفعل ما يقتضي الخذلان، فمثله في ذلك الحرص على الدنيا كمثل الكلب الذي يلهث في كل حالاته، حيث يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}، وفي موضع آخر شبه الله أولئك الذين لا يستجيبون لمراد الله أو يسمعون لرسله أو يعقلون الحق والهدى ما يستوجب التعقل والبصيرة والحكمة من المشركين وغيرهم بالأنعام التي لا تعقل ما يُقال لها ولا تفقه، بل هم أظل منها كونها تهتدي لمراعيها، وتطيع أصحابها فقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا }.
وتظل الغاية المثلى في عبادة الله هي الدور الذي تؤديه كل هذه الدواب والطيور والمخلوقات رغم هذه الأمثال والتشبيهات التي يشبه بها الله الإنسان الخارج عن هداه وصراطه، كأولئك الذين يتخذون من دون الله أولياء حيث يقول تعالى فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41]، قال السَّعدي رحمه الله فيما معناه: هذا مثلٌ ضربه الله لمن عبد معه غيره، يقصد به التعزُّز والتقوِّي والنَّفع، مثله كمثل العنكبوت، اتَّخذت بيتًا يقيها من الحرِّ والبرد والآفات، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفًا، ذلك أنه أوهن البيوت، والآيات والغايات كثيرة في هذه التشبيهات والمماثلة بين الإنسان سواء في توضيح هداه أو ضلالته منها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ الله وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ *}.
أنظمة الحياة
عند التأمل في التشبيه القرآني في الآية السابقة نجد أنه أشار إلى كلمة "أمم أمثالكم" بمعناها الجمعي، وفي كتاب الله العزيز عدد من التشبيهات التي شبه الله بها الإنسان بهذه المخلوقات في السلوكيات الفردية، أما عندما نتطرق إليها كأمم وجماعات سيتبادر إلينا أنظمة الحياة وتسيير شؤونها عند هذه الدواب والطيور التي تمت الإشارة إليها.
إن أنظمة الحياة لدى الحيوانات والدواب والطيور تُظهر تنوعًا فريدًا يعكس تطور هذه الكائنات وقدرتها على التكيف مع بيئتها واحتياجاتها اليومية، حيث تمتلك كل فئة من هذه الكائنات نظام حياة خاص بها يعكس تطورًا بيولوجيًا وبيئيًا فريدًا، تتنوع هذه الأنظمة من حيث الأساليب التي تتبعها الدواب والطيور لتسيير شؤون حياتها، بدءًا من التواصل والتفاهم بينها، والبحث عن الغذاء، مرورًا بالتفاعل مع البيئة المحيطة لضمان البقاء والنمو، والسلوكيات الاجتماعية، والوظائف البيولوجية، وأشكال التعاون أو الصراع بين أفراد النوع الواحد وبين الأنواع المختلفة، وصولًا إلى سلوكيات التكاثر والعناية بالنسل.
وعند التأمل في الحياة العامة للإنسان نجد أن جوانب حياة كثيرة ذات تشابه إذا ما تم التأمل في تنظيم حياة هذه الكائنات كل على حدة، والتي لا متسع هنا لذكرها، وقد توجد آيات ومعجزات كبيرة في طريقة تسيير هذه الكائنات لحياتها التي لم تأت من عبث، بل إلهامٌ من الله حيث يقول تعالى في: { وَأَوحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحلِ أَنِ ٱتَّخِذِی مِنَ ٱلجِبَالِ بُیُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا یَعرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ فَٱسلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُللًا}، يعني أن هناك ترتيبًا ربانيًا وأنظمة معقدة في كل جوانب الحياة التي يعيشها الإنسان تجد لهذه الدواب والطيور أحيانًا أنظمة حياة أكثر إعجازًا وتنظيمًا وتعقيدًا، وفي إطار النظام الجماعي يتحدث القرآن عن النمل فيقول تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} في دلالة واضحة إلى أنها تسير بروابط اجتماعية، وأيضًا تتخذ مسكنًا، وفي حياة الطيور الكثير من الأمثلة المثيرة للأنظمة الحياتية المتنوعة، في البحث عن الرزق وتجمع الطيور والسلوكيات التكاثرية التي من أشهرها نظام "الرجوع إلى العش" حيث يعود الوالدان إلى العش لتغذية الصغار، ومن الطيور من يعتمد على الهجرة السنوية بالانتقال من مناطق باردة إلى مناطق دافئة بحثًا عن الطعام والظروف البيئية المثلى للتكاثر، هذه أنظمة حياة ولكن نجدها في ظل هذه الأنظمة تؤدي غايتها {وسَخَّرنَا مَعَ دَاوُدَ ٱلجِبَالَ یُسَبِّحنَ وَٱلطَّیرَ}، ويقول: {ِوَٱلطَّیرُ صَـٰفَّـٰت كُلّ قَد عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسبِیحَهُ}.. وهكذا يتجلى لنا أن الله ما خلق شيئًا عبثًا، كل له نظام حياة وغاية كما للإنسان نظام ودين وغاية وحساب وآخرة.
انتكاس الفطر
البقر أمة من الأمم المتألهة لله، سُخرت لبني آدم، للحرث والنسل والدر والحمل، وكان لِزامًا أن يُشكر الله على تسخير هذه الأمة من الدواب، ولكن أبى أكثر الناس إلا كفورًا، فُعبدت هذه البهيمة من دون الله بدءًا بالسامرية عبدة العجل في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، وانتهاءً بالهندوسية، قال غاندي: وأمي البقرة تفضُل أمي الحقيقية من عدة وجوه، فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائمًا، ولا تطلب منا شيئًا مقابل ذلك سوى الطعام العادي.
فبدلًا أن يقودهم التفكر والعقل إلى تأليه من خلق هذه الدابة وسخرها بهذا الإعجاز وذللها مع غيرها من الأنعام فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، زاغوا عن حكمة الله ومراده في أن هذه ليست إلا أمم مشابهة للإنسان في خلقها وغايتها، بل قد جعلها الله منفعة له ودليلًا كافيًا لعبادته، حيث يقول تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلأَرضِ جَمِیعا مِّنهُ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰت لِّقَوم یَتَفَكَّرُونَ}.
فواعجبًا كيف يُعصَى الإله
أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكة
وتسكينة أبدًا شاهدُ
وفي كــــل شيء لـــــــــــــــه آيـةٌ
تــــــــدل على أنـــــــه الواحــدٌ
البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ألا تدل على العليم اللطيف الخبير؟!
تأمّل في نبات الأرض وانظرْ
إلى آثار ما صَنَعَ المليكُ
عيونٌ من لجينٍ شاخصاتٌ
بأبصارٍ هي الذهبُ السبيكُ
على قُضُبِ الزبرجدِ شاهداتٌ
بأنّ الله ليس له شريكُ
ويشترك الجميع في مهاجمة المنون؛ {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}، ولابد من العدل والقصاص بين الجميع من أفراد الناس والجان والحيوان يوم القيامة، قال ﷺ: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء -التي بدون قرون- من الشاة القرناء" .
وينفرد الإنسي والجان بجنة أو نار، فاللهم لُطفًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا؛ قال ابن كثيررحمه الله: وقيل: إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور، حتى إنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني ترابًا فتصير ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: ياليتني كنت ترابًا؛ أي كنت حيوانًا فأرجع إلى التراب، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور، وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين■