آخر تحديث :الأربعاء-17 سبتمبر 2025-08:03ص

مجلة جرهم


الصفقات الكبرى.. ترامب والخليج والمستفيد الحقيقي

الصفقات الكبرى.. ترامب والخليج والمستفيد الحقيقي

الأربعاء - 17 سبتمبر 2025 - 08:03 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ عبد الرحمن أياس

في خطوة هزّت المشهدين السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط، قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بجولة دراماتيكية في منطقة الخليج في مايو/أيار 2025، أعادت إلى الأذهان قمة الرياض التي شارك فيها عام 2017، لكنها أخذت الرهانات والدلالات إلى مستوى أعلى بكثير. شملت الزيارة ثلاث دول: المملكة العربية السعودية، ودولة قطر، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وانتهت بإبرام صفقات اقتصادية لافتة، ولقاء غير مسبوق مع الرئيس السوري أحمد الشرع، وإعلان مفاجئ عن رفع العقوبات الأميركية عن سورية. وقد شكّلت هذه الخطوة تحولًا واضحًا في لهجة السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة وتكتيكها وطبيعتها.
تتميّز الولاية الثانية لترامب في البيت الأبيض بعودة حثيثة إلى نهج "أميركا أولًا"، وقلّما تجلّى هذا النهج بوضوح كما تجلّى في الجولة الخليجية. مدعومة برؤساء تنفيذيين ورجال أعمال من قطاع التكنولوجيا وقطاع الدفاع، صُمِّمَت الجولة لتحقيق ثلاثة أهداف: تأمين استثمارات بمليارات الدولارات تصبّ في الاقتصاد الأميركي، وترسيخ موقع واشنطن كشريك استراتيجي أول لدول الخليج، وإعادة رسم الحسابات الدبلوماسية في مسائل عالقة منذ سنوات، وعلى رأسها إعادة تأهيل سورية إقليميًا. لكن ثمار الجولة تعود بالاستفادة على الأطراف كلها ولا تقتصر على الولايات المتحدة، وهذا يصح على دول الخليج التي باتت شريكًا فاعلًا في رسم حاضر المنطقة العربية ومستقبلها أكثر من أي وقت مضى.
جاءت جولة ترامب عام 2025 لتكرّر الطابع الاحتفالي المنظم الذي ساد زيارته الأولى للرياض عام 2017، لكن هذه المرة مع إشارات إقليمية أكثر تعقيدًا. في السعودية، حظي ترامب باستقبال مهيب وصفقات ضخمة، أبرزها صفقة أسلحة قياسية بلغت قيمتها 142 مليار دولار. كذلك كانت لافتة عبارته التي وجّهها إلى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في شأن التطبيع مع إسرائيل: "أمامكم الوقت"، في إشارة إلى أن واشنطن لم تعد تربط علاقاتها الثنائية مع الرياض بموقفها من تل أبيب.
لكن اللحظة السياسية الأبرز جاءت في اجتماعه بالشرع، في أول لقاء بين رئيس أميركي ونظيره السوري منذ عام 2000. أعلن ترامب خلال اللقاء عن رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سورية، في خطوة قُوبِلت بترحيب واسع من قادة الخليج الساعين إلى استعادة سورية إلى الحاضنة العربية والعمل لإعادة إعمارها، على رغم أنها أثارت في الوقت نفسه موجة من الدهشة في واشنطن، إذ اعتبرها منتقدون تعبيرًا عن نزعة أحادية لدى ترامب، فيما رأى فيها مؤيدون جرأة دبلوماسية غير معهودة.

البناء على نتائج قمة الرياض عام 2017
ترجع جذور استراتيجية ترامب الخليجية إلى عام 2017، عندما شارك في القمة العربية الإسلامية الأميركية في الرياض. آنذاك، تمحورت الزيارة حول مكافحة التطرف وتعزيز التحالف الأميركي مع دول الاعتدال، وأسفرت عن صفقات تسليح بقيمة 110 مليارات دولار، من ضمن إطار تفاهمات تصل إلى 350 مليار دولار على مدى 10 سنوات، ومهّدت الطريق أمام دول الخليج لأداء دور أكبر في السياسة الإقليمية.
لكن جولة ترامب عام 2025 أعادت رسم ملامح تلك الرؤية. لم يعد التركيز على مواجهة التنظيمات المسلحة غير الحكومية، بل تحوّل إلى أجندة ثلاثية: تحديث اقتصادي من خلال شراكات مع الولايات المتحدة، وتعزيز الاستقلال الاستراتيجي لدول الخليج، وكسر المحرمات القديمة مثل الانفتاح على دمشق. وإذا كانت زيارة عام 2017 تهدف إلى بناء تحالف جديد، فإن زيارة عام 2025 جاءت لتعزيزه.
هيمنت على الجولة أجواء اقتصادية فاجأت حتى المراقبين المخضرمين. أسفرت جولة ترامب الخليجية عن صفقات بقيمة تقارب 700 مليار دولار، وصفقات مرتقبة بقيمة 1.3 تريليون دولار، ليصل الإجمالي إلى تريليوني دولار. في الرياض، شملت صفقة الدفاع البالغة 142 مليار دولار أنظمة رادارات حديثة، ومنظومات دفاع جوي، ومقاتلات متطورة يُحتمَل أن تتضمن مقاتلات من طراز "إف-35". وخارج القطاع العسكري، وقّعت السعودية اتفاقات مع 34 شركة أميركية بقيمة تصل إلى 90 مليار دولار، شملت مجالات الطاقة والخدمات اللوجستية والبنى التحتية.
أما في قطر، فقد ساعد ترامب في إبرام عقد ضخم بين الدوحة شركة "بوينغ" لشراء 210 طائرات بقيمة 96 مليار دولار. وشمل الاتفاق أيضًا تقنيات الطيران، والأمن السيبراني، والتعليم، مع اهتمام قطري بالتعاون في مجالي الذكاء الاصطناعي والتقنيات الفضائية، وهما قطاعان مركزيان في استراتيجية ترامب لإحياء الاقتصاد الأميركي. وفي الإمارات، جرى الإعلان عن استثمارات تفوق 200 مليار دولار في مجالات الطاقة النظيفة، وشراء أشباه الموصلات المتقدمة، واستضافة مراكز بيانات أميركية، ما يضع أبو ظبي في منافسة مباشرة مع مراكز التكنولوجيا في أوروبا وشرق آسيا.
وعلى رغم أن البعض رأى أن هذه الأرقام رمزية أو غير ملزمة، إلا أن الرسالة كانت واضحة: الخليج يرى في ترامب بوابة للوصول إلى أحدث ما أنتجته التكنولوجيا الأميركية، وترامب يرى في الخليج استثمارات حالية ومحتملة لإنعاش القطاعات الأميركية.

الورقة الرابحة غير المتوقعة
وفي حين كانت الصفقات الاقتصادية متوقعة، شكّل تحوّل ترامب تجاه سورية مفاجأة كاملة. في لقائه مع الشرع في الرياض بوساطة سعودية، أعلن ترامب نيته رفع العقوبات المفروضة بموجب قانون "قيصر" وغيره من القوانين، قائلًا: "لسورية فرصة لإعادة البناء، ويجب أن نكون جزءًا من تلك القصة". من منظور خليجي، فتحت هذه الخطوة آفاقًا لمشاركة طال انتظارها في إعادة إعمار سورية، ومساحات جديدة لتمتين العلاقات مع سورية ما بعد الحرب وما بعد نظام الأسد. وكانت الإمارات ومملكة البحرين قد أعادتا علاقاتهما مع دمشق في وقت سابق، وما لبثت السعودية أن اتخذت الخطوة.
لكن إسرائيل استقبلت التطور بقلق بالغ. فتباطؤ إدارة ترامب في ملف التطبيع السعودي الإسرائيلي، بالتزامن مع انفتاحها على دمشق، وضع تل أبيب في عزلة سياسية نسبية. وبينما رأى بعض المحللين الإسرائيليين في التحول محاولة توازن استراتيجية، حذّر آخرون من أن ذلك قد يُضعِف التزامات واشنطن التاريخية تجاه إسرائيل.
أثار إعلان ترامب في شأن سورية موجة من التبعات القانونية والسياسية في واشنطن. إذ لا يمكن للرئيس أن يرفع العقوبات المنصوص عليها في قانون "قيصر" بموجب مرسوم تنفيذي فحسب. وعبّر مسؤولون كبار في وزارتي الخزانة والخارجية عن دهشتهم، إذ لم تُبلَغ أي جهة رسمية مسبقًا بالقرار. وندّد مشرّعون من الحزبين بالخطوة، محذّرين من تداعياتها على ملف حقوق الإنسان وعلى سوابق السياسة الخارجية.
وصف السناتور الجمهوري ليندسي غراهام القرار بأنه "متهوّر"، فيما تعهّد الديمقراطيون في مجلس النواب بسنّ تشريع يمنع الرئيس من تجاوز إشراف الكونغرس. ومع ذلك، بدأت بعض الشركات الأميركية بإجراء محادثات استكشافية غير رسمية مع شركات عربية وسيطة لقياس فرص الاستثمار في سورية ما بعد العقوبات.
وانقسمت وسائل الإعلام الأميركية في تغطيتها للزيارة الخليجية. فقد أشادت الصحف المحافظة بقدرة ترامب على انتزاع الصفقات وكسر التابوهات الدبلوماسية، في حين طرحت الصحافة الليبرالية تساؤلات حول تداعيات التطبيع مع نظام الشرع في الأجل البعيد. أما في الخليج، فقد احتفت وسائل الإعلام الرسمية بالزيارة بوصفها انتصارًا لقرار سيادي مستقل. ونشرت الصحف في الرياض وأبو ظبي والدوحة مقالات تُثنِي على النهج الأميركي الجديد الذي يحترم الخصوصيات المحلية. وعلى منصات التواصل، اشتعل الجدل بين من رأى في ترامب شريكًا عمليًا، ومن حذّر من العواقب البعيدة الأجل للسياسات المتقلبة التي ينتهجها ترامب.

شراكات جديدة
أحد الأبعاد الأقل تناولًا في التغطية الإعلامية، لكن الأكثر أهمية استراتيجيًا، هو تعميق الشراكة في مجالات التكنولوجيا والأمن السيبراني. فقد اعتُبِر تزويد الإمارات بأحدث رقائق الذكاء الاصطناعي الأميركية رسالة واضحة في مواجهة التمدد الصيني. كذلك تبحث السعودية في إنشاء مراكز بيانات ومراقبة بإشراف أميركي، وفق أنظمة قانونية توفّق بين المعايير المحلية والغربية.
يعكس ذلك توجهًا جديدًا: تسعى دول الخليج إلى سيادة تكنولوجية، وأميركا تبحث عن موطئ قدم رقمي في مواجهة "طريق الحرير الرقمي" الصينية. وتبدو المنطقة العربية عمومًا والخليج خصوصًا في الطريق إلى أن يصبحا ساحة تنافس كبرى بين المنصات الغربية والشرقية.
أما إسرائيل فتواجه صدمة استراتيجية واضحة. فالحلف المتين الذي جمع رئيس وزرائها اليميني بنيامين نتنياهو وترامب في ولاية ترامب الأولى تحوّل إلى بعض من البرود. وبينما يتفهّم ترامب تريّث قادة الخليج في ملف التطبيع مع الدولة العبرية، ويتفاهم مع النظام السوري الجديد، تجد تل أبيب نفسها في موقع دفاعي. وفي حين يحذّر محللون إسرائيليون من أن إيران قد تستفيد من فكّ العزلة عن سورية، تتّهِم قوى المعارضة الحكومة الإسرائيلية بالتقاعس عن احتواء التحوّلات.
في الداخل الأميركي، روّج ترامب للجولة بوصفها "نصرًا" يعكس مهاراته التفاوضية. وحوّلت دائرته المقرّبة الإنجازات إلى أدوات دعاية، ولاسيما في خصوص الصفقات المرتبطة بالطيران المدني والعسكري وشركات رقائق أميركية في تكساس. غير أن معارضيه اعتبروا الجولة مجرد استعراض يمهّد لانتخابات منتصف الولاية الرئاسية، لا مهمة دبلوماسية حقيقية. ومع ذلك، كانت الصور التي ظهر فيها الرئيس الأميركي يوقّع على صفقات بتريليونات الدولارات كفيلة بترسيخ صورته كزعيم قادر على حصد العقود والعناوين الإخبارية وتمتين التحالفات على حد سواء.

ملامح نظام إقليمي جديد
تشير جولة ترامب إلى بزوغ نظام إقليمي جديد تحل فيه دبلوماسية المصالح المتبادلة بالاستقرار محل التحالفات التقليدية. دول الخليج تعزّز استقلالها، وتنسج شراكات متعددة في واشنطن وبكين وموسكو. ومع دعم ترامب، باتت قادرة على رسم شروط اللعبة مع خصومها الإقليميين وشركائها الغربيين على حد سواء.
أما المستقبل، فمرتبط بمدى التزام واشنطن بتنفيذ الاتفاقات، وبمواصلة دول الخليج موازنة علاقاتها في عالم متعدّد الأقطاب. لكن الثابت أن قواعد العلاقات الأميركية العربية قد تغيّرت... ربما إلى غير رجعة. وفي هذا المشهد المتحوّل، قد لا يكون المستفيد الحقيقي دولة بحد ذاتها، بل منظومة كاملة من الدول والقطاعات والشبكات المالية والنخب يهمّها الاستقرار في منطقتنا.