آخر تحديث :السبت-20 سبتمبر 2025-10:34م

مجلة جرهم


السلفيون في اليمن.. رحلة التحولات

السلفيون في اليمن.. رحلة التحولات

السبت - 20 سبتمبر 2025 - 10:15 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ عادل الأحمدي رئيس مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام


قبل أكثر من عقد من الزمان، وفي تلك اللحظات العصيبة التي سبقت انهيار الدولة وسقوط أجزاء واسعة من اليمن في قبضة الميليشيات الكهنوتية الحوثية، كانت أنظار اليمنيين تتجه نحو نقطة محورية لم تكن مجرد منطقة جغرافية، بل كانت رمزًا للصمود: دماج في صعدة، حيث دار الحديث الذي أسسه الشيخ المحدِّث مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله.
مثّلت حرب الحوثيين وحصارهم الخانق للسلفيين في معقلهم العلمي بدماج, المحطة التي ظنّ فيها الكهنوت أنه يزيل العقبة الأخيرة في طريقه بمحافظة صعدة، تمهيدًا للانقضاض على العاصمة صنعاء.
وبالفعل، بسقوط دماج، بدا الطريق معبّدًا أمام جحافل الحوثي نحو صنعاء. لكن ما غاب عن أذهان تلك الميليشيا هو أن السلفيين، أو "أهل السنة والحديث" كما يفضلون أن يُطلق عليهم، سيصبحون قدرًا لا مفر منه يلاحق مشروعهم أينما حلّ وارتحل. فبعد مرور كل تلك السنوات، بات جليًّا أن هذا المكون الذي سعى طويلًا للابتعاد عن الانغماس في السياسة ودهاليزها، لم يجد بدًا من أن يتحول إلى درعٍ للوطن وخط دفاعه الأول، ليكونوا بحقٍّ عمالقة المعركة الوطنية، وسدًا منيعًا في وجه المشروع الإيراني الطائفي المدمر.
ففي حين ترك السلفيون صعدة من بوابة التهجير القسري، إلا أنهم عادوا إليها من بوابة المعركة الوطنية، يحيطون بها من مختلف الاتجاهات، من حدود ميدي في حجة إلى حدود الجوف، يتواجدون على رأس تشكيلات عسكرية ابتداء من البقع وكتاف مرورًا بباقم والصفراء وصولًا إلى رازح وآل ثابت ومران، هناك خاضوا معارك واسعة أسفرت عن تقدمات ميدانية كبيرة, ولا يزالون مرابطين في مواقعهم وثابتين على مواقفهم، مستعدين للعودة إلى معقلهم الأول طال الزمان أم قصر..

ليسوا جماعة... بل نسيج مجتمعي
وقبل الخوض في تفاصيل الدور الذي يلعبه السلفيون اليوم في معركة الأمة ومصير اليمن، لا بد من التوقف عند حقيقة جوهرية تُبنى عليها كافة أجزاء الصورة. قد يجادل البعض بأن السلفيين تيارات متعددة، وأنه لا يمكن الحديث عنهم ككتلة واحدة. ورغم صحة ذلك من الناحية الأكاديمية، إلا أنه يغفل جوهر القضية في السياق اليمني.
فما يميز السلفيين في اليمن أنهم ليسوا "جماعة" بالمعنى التنظيمي الهرمي، وليسوا تيارًا مغلقًا ببطاقات عضوية وشروط انتماء. هم بالأحرى جزء عضوي من نسيج المجتمع اليمني، يتواجدون في جميع طبقاته ومناطقه. لا يجد المواطن العادي أي حاجز يمنعه من مصادقة سلفي أو الاستفادة منه, أو حتى أن يصبح واحدًا منهم، فلا شروط تنظيمية صارمة ولا مواقف سياسية مُلزمة يجب تبنيها.
هذه الطبيعة الشعبية غير المؤطرة هي سر قوتهم ومصدر قبولهم الواسع ليس في اليمن فحسب، بل في بلدان أخرى أيضًا، قد يرى البعض في هذه السيولة نقطة ضعف تجعلهم عرضة للاختراق أو التوظيف، لكن الحقيقة الأهم أنها منبع القوة الحقيقي، فهي تمنحهم مرونة وقدرة على التكيف والتوسع. وإذا ما راجعنا مواقف السواد الأعظم منهم، سنجدهم دائمًا في مقدمة من يتصدون لأي انحراف يمس عقيدة اليمنين أو هويتهم.

من منابر الدعوة إلى متاريس النضال
انطلاقًا من هذا الحضور المجتمعي الفاعل، وعندما وجد اليمن نفسه في مواجهة تهديد وجودي، كان من الطبيعي أن يكون السلفيون في مقدمة الصفوف. لم يكن ذلك تحولًا مفاجئًا كما قد يتصور البعض، بل كان تفعيلًا لطاقة كامنة، وتجسيدًا لإيمان عميق بقضية عادلة. إن غياب الإطار التنظيمي الصارم الذي قد يتحول إلى قيد في كثير من الأحيان، منحهم المرونة اللازمة، بينما شكّل الجانب العقدي الراسخ دافعًا صلبًا ومسألة مركزية في معركة تاريخية مفصلية كهذه.
لكن، هل كانت هذه المعطيات وحدها كفيلة بنقل السلفيين من هدوء منابر الدعوة إلى صخب قيادة الفيالق العسكرية المنظمة؟، هل كان يمكن لهذه الطاقة أن تتبلور في تشكيلات عسكرية ضاربة تنتشر على امتداد الجبهات من صعدة ومأرب وشبوة وأبين، وصولًا إلى عدن والضالع ولحج وتعز والساحل الغربي؟، الإجابة هي أن الظروف وحدها لا تصنع النصر، بل لا بد من وجود قيادات تحمل قضية وتتمتع بالحكمة والحنكة والتضحية، قادرة على تحويل الإرادة الشعبية إلى قوة منظمة على الأرض.

الحنكة التي حوّلت المسار
وهنا يبرز نجم وحجم "ألوية العمالقة" كنموذج فريد لهذه القيادة. قوة ضاربة تتألف من عشرات الألوية العسكرية المدربة، يقف على رأسها اللواء الركن عبد الرحمن بن صالح المحرمي (أبو زرعة)، عضو مجلس القيادة الرئاسي. كان بإمكان رجل في موقعه أن يكتفي بالدور العسكري، لكن سنوات التجربة أثبتت أن الرجل صاحب قضية وموقف ورؤية تتجاوز فوهات البنادق. لقد جعله حضوره المؤثر فاعلًا في مختلف التحديات، سواء كانت عسكرية، أم أمنية، أم حتى اقتصادية وتنموية واجتماعية في المناطق التي تتواجد فيها قواته.
هذا الواقع لم يكن وليد لحظة، بل نتاج مسيرة حافلة بالمواقف والأدوار الحاسمة. لم يبدأ الأمر فقط بتحرير أجزاء واسعة من اليمن، من الساحل الغربي في عملية "الرمح الذهبي"، إلى مديريات شبوة في عملية "إعصار الجنوب"، بل امتد إلى حراسة هذه المنجزات وتأمين حياة الناس، والأهم من ذلك، لعب دورٍ حاسمٍ في اجتثاث أي وجود للجماعات المتطرفة، مثبتين أن الاعتدال والقوة يمكن أن يجتمعا لحماية الدولة. وكل ذلك تم بتخطيط ودعم وإسناد لا محدود من قيادة التحالف العربي، ممثلة بالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وبالتنسيق مع قيادة الشرعية اليمنية.

قوة وطنية
إن قصة "العمالقة"، وبقية التشكيلات ذات القيادة السلفية سواء في الحد الشمالي أو ضمن تشكيلات قوات درع الوطن، تستحق إفراد مساحات أوسع، فقد يخيل للبعض أن دوافعها عقدية بحتة. لكن بمجرد الحديث مع أفرادها، تتكشف صورة مختلفة: نحن أمام قوة عسكرية مبنية على أسس تنظيمية وتدريبية صارمة، وفق المبادئ العسكرية الاحترافية لا الأعراف الميليشياوية. والأهم من ذلك، وهو ما لا يتنبه إليه الكثيرون، أن هذه القوات ليست مجموعات مغلقة.. فقد تتركز القيادات في أيدي السلفيين الذين أشعلوا شرارة المقاومة الأولى، لكن الجنود هم من مختلف أطياف المجتمع اليمني، بينهم جنود سابقون في الجيش والأمن، ومواطنون عاديون جمعهم هدف واحد. يتم التجنيد وفق معايير الكفاءة العسكرية والولاء للوطن، لا على أساس الانتماءات الفكرية الضيقة.

تجاوز التحديات
إذن، نحن لسنا أمام حزب أو جماعة، بل أمام قيادات وتشكيلات وطنية. هذا لا يعني أن الطريق كان مفروشًا بالورود. لقد واجه بناء هذه القوات تحديات كبيرة، أبرزها التعامل مع بعض الممارسات الفردية أو الأفكار المتشددة التي كان يمكن أن تظل عائقًا يحاصر دورهم. لكن تجاوز هذه التحديات أثبت أمرين: أولًا أن هذه الممارسات كانت فردية ومعزولة. وثانيًا أن القيادة الحكيمة والشخصية الكارزمية التي يتمتع بها اللواء أبو زرعة المحرمي والعديد من القادة الميدانيين البارزين، استطاعت احتواء هذه التحديات وتوجيه كل الطاقات نحو العدو المشترك.
جانب آخر ملموس هو أنه في خضم الأزمات التي عصفت باليمن، وبروز أصوات تتخذ مواقف متشنجة من التحالف العربي، حافظ السلفيون، وفي مقدمتهم العمالقة، على علاقة متوازنة ومبدئية، وابتعدوا عن المزايدات. يرجع ذلك إلى المنهج العقدي القائم على طاعة ولي الأمر ووحدة الصف، وإلى حكمة سياسية أدركت أن المعركة تتطلب تجميع الحلفاء لا تفريقهم. وقد تجلى هذا النجاح في قدرتهم على العمل بتناغم في ساحات كانت بمثابة حقول ألغام سياسية، من الساحل الغربي حيث قاتلوا جنبًا إلى جنب مع قوات المقاومة الوطنية بقيادة العميد طارق محمد عبد الله صالح، وصولًا إلى عدن ومحيطها حيث التعاون الوثيق مع المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة اللواء عيدروس الزبيدي.

ختامًا
إن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي برئاسة الرئيس الدكتور رشاد محمد العليمي، وإشراك العمالقة في قلب مركز القرار، لم يكن إلا تتويجًا لهذا الدور الوطني، وخطوة ذكية ساعدت على تعزيز الانسجام بين مختلف القوى. قد تكون الهدنة الحالية أجّلت معركة التحرير الشاملة، لكنها وفقًا لحسابات المنطق والواقع والتجارب، مسألة وقت. ويومها، سيكون لليمن موعد مع معركة مشرفة، تتوج سنوات من التضحيات الجسام والظروف شديدة التعقيد، وستكون هذه القوات الوطنية في طليعتها، تمارس دورها في تثبيت المواقع وحفظ المكتسبات وتحقيق الأمن والاستقرار..