آخر تحديث :الثلاثاء-30 سبتمبر 2025-09:20م

مجلة جرهم


المُحاجّة والإقناع القرآني: نماذج تطبيقية من قصص الأنبياء

المُحاجّة والإقناع القرآني: نماذج تطبيقية من قصص الأنبياء

الثلاثاء - 30 سبتمبر 2025 - 09:20 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. محمد عصام المقداد ــ أستاذ الإقناع في الجامعة الأمريكية المفتوحة


يمتاز الخطاب القرآني ببنيته البلاغية الفريدة، التي لا تقف عند حدود اللغة الجمالية، بل تتجاوزها لتُمارس فعلًا إقناعيًا شديد العمق والتأثير؛ فهو خطاب يتوجه إلى العقل، ويخاطب الفطرة، ويستنهض الوجدان، ويزرع القناعة لا بالإكراه بل بالحجة، ولا بالعنف بل بالموعظة الحسنة. وإذا كانت الحجة هي سلاح الداعية، فإن الله قد سلّح رسله بأساليب محاجة تتكامل فيها الوسائل العقلية، والوجدانية، والروحية، في نسق لغوي معجز أكده القرآن الكريم.
وقد مثّل أسلوب النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته نموذجًا تطبيقيًا لذلك، إذ مارس الإقناع في دعوته مستندًا إلى ما أنزل عليه من آيات، وما ألهمه الله من حكمة. غير أن هذا الأسلوب لم يكن حكرًا عليه، بل هو ميراث نبوي، مارسه الأنبياء من قبله، كإبراهيم وموسى عليهم السلام، كلٌّ سلك مسالك المُحاجّة بحسب مقام قومه، ومستوى وعيهم، وموقفهم من الحق.

شواهد قرآنية
لم تخلُ دعوات الأنبياء ورسالاتهم من المحاجات مع أقوامهم، فقد بهت الذي كفر -النمرود- نتيجة تلك المحاجة التي أثبتها القرآن في سورة البقرة، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة: 258]، حيث استخدم فيها إبراهيم منطقًا واضحًا وحجة عقلية أربكت النمرود، وقد تعددت الأدلة والشواهد على هذا الموضوع في كتابه تعالى فقال في سورة آل عمران : ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ﴾ [آل عمران: 20]، وفي سورة آل عمران أيضًا قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أفلا تعقلون * هَأَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾ [آل عمران: 65- 66]، وقد تعددت الشواهد القرآنية على موضوع المحاجة والاقناع القرآني ليحسمها بقوله تعالى في سورة الشورى إذ يقول: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى: 16]، وهو الأمر الذي يدل دلالة واضحة على ذم من يستمر في الجدل بعد وضوح الحجة واستجابة الناس لدعوة الله.

بين المحاجّة والإقناع
من خلال ذلك يتبين أنه ليس المقصود بالمحاجّة مجرد المجادلة أو الخلاف، بل هي مداولة عقلية منظمة بالحجة، تهدف إلى كشف الباطل وتثبيت الحق، بأسلوب يستند إلى الدليل، ويُراعي حال المخاطَب؛ أما الإقناع، فهو عملية أعمّ، تشمل الجانب العقلي والوجداني، وتهدف إلى بناء قناعة داخلية راسخة لدى المتلقي، عبر وسائل متعددة تبدأ من العقل وتنتهي بالقلب.
وقد جمع القرآن بين المفهومين بطريقة دقيقة؛ فهو يحاجّ الكفار والمشركين، ويحاور أهل الكتاب، ويناقش المنافقين، ويوجّه المؤمنين، وكل ذلك بأساليب متنوعة، من التقرير العقلي، إلى المعجزة الحسية، إلى القصة والمثل، إلى التحدي البلاغي، والجدال بالتي هي أحسن.
والمتمعّن في آيات القرآن يجد أن المحاجة فيه لا تُمارس من باب الانتصار الجدلي، بل من باب الرحمة والهداية، حيث يُراد بها حمل الناس على التفكير، والتخلّي عن التلقين الأعمى، وفتح آفاق العقل والنقاش الحر.

أهداف المحاجة وخصائص الإقناع
تُظهر الآيات أن المحاجة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة هادفة لتحقيق عدة مقاصد دعوية وتربوية، من أبرزها: إظهار الحق وبسطه بوضوح لمن يبحث عنه, وتفنيد الباطل بالحجة دون تهويل أو تحقير, وحمل الخصم على التفكير، أو التسليم إذا عاند، بأسلوب لا يُقصيه بل يُقيم عليه الحجة, وترسيخ العقائد بالعقل لا بالإكراه، ليكون الإيمان نابعًا من اقتناع لا تقليد, والتربية على ثقافة الحوار والجدل المحمود، وهو ما افتقدته الجاهلية كثيرًا, وهذا المنهج القرآني لا يكتفي بالإجابة على الشبهة، بل يحوّل السؤال نفسه إلى مناسبة لتعميق المعنى، وإعادة توجيه الفكر إلى نقطة التوازن.
وللقرآن الكريم ميزات تجعل إقناعه مختلفًا عن أي خطاب بشري، ويمكن تلخيص بعض تلك السمات في الآتي:
- الإيجاز العميق: فالقرآن يقدّم حجة قوية في آية واحدة، قد تحتاج لصفحات من التحليل، مثل قوله: ﴿أفي الله شك فاطر السماوات والأرض﴾ [إبراهيم: 10]. استفهام تقريري يحرك الفطرة والعقل دفعة واحدة.
- التدرج في عرض الحجة: يبدأ من إثارة التساؤل، ثم عرض المقدمات، ثم إثبات النتائج، مثل قوله: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ [الأنبياء: 22].
- استحضار الحسّ والتجربة: عبر ضرب الأمثال، وتوظيف القصص، واستدعاء التجربة الحسية.
- مراعاة حال المخاطب: فليس الخطاب واحدًا لكل الناس، بل تختلف الحجج تبعًا للثقافة، واللغة، والدين، والموقف النفسي.
- الحفاظ على مقام الدعوة بالحسنى: فلا سخرية، ولا تجريح، بل جدال راقٍ، كما قال تعالى: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ [النحل: 125]

الأساليب البلاغية للإقناع القرآني
تنوعت أساليب القرآن الكريم في إقناع المخاطبين بحسب طبيعة عقولهم، ومواقفهم، وأهداف الخطاب، ويمكن حصر أبرز تلك الأساليب في ما يلي:
- التقرير العقلي والفطري
من أقوى أدوات المحاجة القرآنية اعتماده على الفطرة السليمة والبديهيات العقلية، دون الحاجة إلى مقدمات طويلة، كما في قوله تعالى: ﴿أفي الله شك فاطر السماوات والأرض﴾ [إبراهيم: 10], استفهام تقريري موجَّه لمن يشك، لكنه في الحقيقة ينفي وجود أي شك في الخالق. ومن بديع التطبيق النبوي لهذا النوع ما ورد في حديث النبي ﷺ مع الأعرابي الذي سأله عن علامات النبوة، فقال له: "أرأيت إن أخبرتك أن الله بعثني، أتُصدّقني؟", فاستخرج منه إقرارًا مبدئيًا قبل أن يعرض عليه باقي الحجة.
- الأسلوب البرهاني والمنطقي
اعتمد القرآن أحيانًا على البراهين العقلية الكاملة، كما في قوله تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ [الأنبياء: 22], وهو ما يُعرف في علم المنطق بـ"دليل التمانع"، إذ يثبت أن وجود أكثر من إله يؤدي إلى فساد الكون، وهو ما لا يُعقل.
وقد وظف النبي ﷺ هذا المنطق القرآني في حواره مع وفد نصارى نجران، حين احتج عليهم بأن عيسى مخلوق مثل آدم: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ [آل عمران: 59], فأراد أن يقطع عليهم سبيل التأليه، بحجة عقلية مصدرها القرآن.
- القصة القرآنية
يُعد الأسلوب القصصي من أعمق أدوات الإقناع، لأنه يجمع بين العبرة، والواقعية، وإثارة التفاعل، وتحفيز التأمل. مثال ذلك: ﴿واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها﴾ [الأعراف: 175], قصة بلعام بن باعورا، الذي أوتي علمًا فخان الأمانة، فصار مثالًا لكل من باع دينه.
والنبي ﷺ استخدم القصة كذلك لإقناع المخاطب وإيصال الفكرة، كما في حديث "قاتل المئة نفس"، إذ عرض نموذجًا لحياة مملوءة بالذنوب يمكن لصاحبها أن ينال الرحمة إذا أقبل بصدق، وهي طريقة بعيدة عن التوبيخ المباشر، بل تحمل رسائل خفية للسامعين.
- أسلوب التحدي
في بعض المواضع، يلجأ القرآن إلى التحدي كوسيلة لكسر العناد، وإثبات العجز، كما في قوله تعالى: ﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ [البقرة: 23], هذا التحدي البلاغي ما زال قائمًا، وهو يشكل برهانًا على مصدرية القرآن. وقد استخدم النبي ﷺ هذا الأسلوب مع كفار قريش مرارًا، فكان يقرأ عليهم الآيات في المحافل والأسواق، ويقول: "من يأتِ بمثل هذا؟"، ولم يقدروا.
- الاستفهام الإنكاري والتحفيزي
من خصائص القرآن توظيف الاستفهام بأسلوب غير مباشر يحرك العقل، كما في قوله تعالى: ﴿أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون﴾ [الطور:35], لا ينتظر المتكلم جوابًا، بل هو يسوق السؤال لنسف الوهم، ودفع المتلقي إلى التساؤل الصادق. وقد استخدم النبي ﷺ هذا في أسلوبه التربوي، كما في حديثه مع خزيمة بن ثابت، حين قال له بعد مبايعته: "كيف ترى؟"، فكان بذلك يحفّز التأمل الذاتي لا التلقّي الأعمى.
- الجدال بالتي هي أحسن
﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾ [العنكبوت: 46], وهذا توجيه صريح إلى تجنب العنف الكلامي، واعتماد أسلوب هادئ، خالٍ من التهكم، يستند إلى الحجة والمحبة لا إلى الخصومة.
وقد بلغ النبي ﷺ ذروة هذا الأسلوب حين عامله زيد بن سعنة -وكان يهوديًا- بفظاظة في طلب الدين، فتبسم النبي وقال لعمر: "كنت أحوج إلى أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب"، فأعلن زيد إسلامه تأثرًا بهذا الحلم الخُلقي.

نماذج تطبيقية
وقد ورد العديد من النماذج التطبيقية للإقناع والمحاجات في دعوات الأنبياء لأقوامهم, نورد من ذلك ما يلي:
- في دعوة النبي عليه الصلاة ومحاجّته لمشركي قريش، وخلال لقائه مع عتبة بن ربيعة، قرأ عليه سورة فصلت، حتى بلغ قوله: ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ [فصلت: 13], فتأثر عتبة تأثرًا شديدًا، حتى وضع يده على فم النبي ﷺ يستنجد به أن يتوقف. وهذه لحظة إقناع حاسمة، لم تأتِ بجدل، بل بحجة قوية وإيقاع بلاغي مزلزل.
- ومن ذلك محاجّته صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب، في لقائه مع وفد نجران، حيث قرأ عليهم: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم﴾ [آل عمران: 59]، ثم دعاهم للمباهلة، مما أرعبهم وأشعرهم بأن الدعوة قائمة على يقين، لا على تحامل، فتراجعوا عن المجادلة، وهو أسلوب جمع بين العقل والإيمان.
- أضف الى ذلك محاجّته للمنافقين والدهريين، فمع المنافقين كان النبي ﷺ يعرض صفات المنافقين دون تسميتهم، فيقول: "آية المنافق ثلاث..."، ليدفعهم إلى مراجعة أنفسهم. أما في مواجهة الملاحدة والدهريين، فقد نقل القرآن حواراته معهم: ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾ [الجاثية: 24], فيرد عليهم النبي ﷺ بأدلة البعث والنشور، كما في قوله تعالى: "﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلࣰا وَنَسِیَ خَلۡقَهُۥۖ قَالَ مَن یُحۡیِ ٱلۡعِظَـٰمَ وَهِیَ رَمِیمࣱ (٧٨) قُلۡ یُحۡیِیهَا ٱلَّذِیۤ أَنشَأَهَاۤ أَوَّلَ مَرَّةࣲۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلۡقٍ عَلِیمٌ (٧٩) ﴾ [سُورَةُ يسٓ: ٧٨-٧٩].
ولعل من أبلغ النماذج التطبيقية لأساليب المحاجة القرآنية ما نجده في قصص الأنبياء الذين واجهوا أقوامًا جاحدين بأساليب عقلية ووجدانية متكاملة، وظّفوا فيها الحجة، والقصة، والتحدي، والمنطق، بل وساهموا في بناء النموذج الإقناعي النبوي الذي سيتبعه محمد ﷺ لاحقًا.
إبراهيم عليه السلام– رائد الحوار العقلي، حيث يُعد من أكثر الأنبياء توظيفًا للمحاجّة العقلية في دعوته، وقد سجّل القرآن له سلسلة من المواقف التي تحوّلت إلى دروس خالدة في الجدل بالحسنى، والإقناع القائم على الحجة والمنطق.
- يورد القرآن حوار إبراهيم مع قومه الذين عبدوا الأصنام، في سورة الأنبياء، إذ جاءهم بمنطق يُفكك معتقداتهم من الداخل: ﴿فقال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين * قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين﴾ [الأنبياء:52-54]. ثمّ بلغ حواره ذروته في التجربة التطبيقية بتحطيم الأصنام وترك الفأس على كبيرهم، ثم قال: ﴿بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون﴾ [الأنبياء: 63]؛ هنا تتجلّى قوة الإقناع القصصي، والإحراج المنطقي، فالقوم لم يجدوا ردًّا، وأقرّوا بالعجز، فقالوا: ﴿لقد علمت ما هؤلاء ينطقون﴾, وهو نموذج يُجسّد بوضوح أسلوب التقرير العقلي، والمثال الحسي، والجدال اللين في آنٍ معًا.
- وفي حواره مع الملك الجبار - النمرود- نموذج آخر تجلّى فيه المنطق البرهاني: ﴿ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبُهِت الذي كفر﴾ [البقرة: 258], نرى هنا استعمال أسلوب التحدي المبطّن، المدعوم بالحجة العقلية، وقد أدى إلى إسكات الخصم، لا بالعنف، بل بالبرهان.
- وقد استخدم إبراهيم عليه السلام التقرير العقلي كما في قولـه: ﴿أتعبدون ما تنحتون﴾، ووظّف الأسلوب البرهاني والمنطقي حين حاجّ الملك، واستخدم القصة الحسية التطبيقية حين كسر الأصنام، ولجأ إلى الاستفهام الإنكاري في مقام آخر : ﴿أف لكم ولما تعبدون﴾ في كل محاجاته راعى إبراهيم عليه السلام حالة المخاطب، فخاطب الجاهل بالمثل، والملك بالعقل.
موسى عليه السلام– التوازن بين المعجزة والمنطق
موسى عليه السلام واجه واحدًا من أكثر الطغاة جحودًا في التاريخ، وقد جاءه برسالة عقلية وروحية متكاملة، جمعت بين الحجة العقلية والمعجزة الحسية والبيان الهادئ، كما يلي:
١- البداية بالحوار السلمي: ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولًا لينا لعله يتذكر أو يخشى﴾ [طه: 43-44]، البدء باللين رغم الطغيان يُجسّد الجدال بالتي هي أحسن.
٢- العرض العقلي للرسالة: حين سأله فرعون: ﴿فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾ [طه: 49 -50]، هنا يعتمد موسى على تعريف الله من خلال الأثر: الخلق، ثم الهداية، وهو تعريف عقلاني قائم على الاستقراء والتأمل.
٣- استخدام المعجزة حين يعجز العقل: ﴿فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين﴾ [الأعراف: 107– 108]، هذه المرحلة جاءت حين أُغلق باب الحوار المنطقي، فكانت المعجزة وسيلة إقناع حسية قاطعة.
٤- التأثير حتى في الخصوم: ﴿فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى﴾ [طه: 70]، دليل على أن المحاجّة والمعجزة متى اجتمعتا أذابتا الغرور، وأسقطتا الجدل.
موسى عليه السلام بدأ باللين، وهو نموذج على الجدال الراقي، وقدّم دليلًا منطقيًا على وجود الخالق، واستخدم المعجزة الحسية كتحدٍ مقابل السحر، وهكذا وُجِّه خطابه بما يناسب عقلية المتلقي: سحرة، ملك، عامّة.

خاتمة
تكشف الأساليب القرآنية في الإقناع أنها ليست مجرّد عناصر بلاغية، بل هي بنية فكرية متكاملة، تربط العقل بالوجدان، والحق بالواقع، والبرهان بالتجربة. وقد تشكّلت هذه الأساليب في قوالب متعددة: من منطق عقلي، إلى استعارات، إلى قصص، إلى تحديات، وكلها جاءت لا لإفحام الخصم، بل لإرشاده.
وقد جسّد النبي ﷺ هذه المدرسة البلاغية في سلوكه وحواره، كما سبقه إليها الأنبياء من قبله، فجعلوا من الدعوة حوارًا لا فرضًا، وإقناعًا لا صراخًا، ورسالة عقلانية رحيمة لا معركة شعارات.
إن فهم هذه الأساليب وتطبيقها اليوم يتيح لنا أن نعيد الخطاب الإسلامي إلى أصله المتوازن، الذي يجمع الحجة إلى الحِلم، ويزاوج البرهان بالرفق، ليبقى القرآن حيًا في عقول الناس، لا فقط في مصاحفهم.