آخر تحديث :الإثنين-06 أكتوبر 2025-01:24م

تقارير


من مقاعد الدراسة إلى أرصفة العذاب… الطفولة اليمنية في المنفى الداخلي

من مقاعد الدراسة إلى أرصفة العذاب… الطفولة اليمنية في المنفى الداخلي

الإثنين - 06 أكتوبر 2025 - 01:24 م بتوقيت عدن

- جرهم خاص- عبدالله محمد مناوس


أطفالٌ في براءة أعمارهم يسيرون في شوارع المدن اليمنية وهم يحملون أكياس المناديل أو المساويك أو الماء البارد، يتنقلون من سوق إلى آخر تحت شمسٍ حارقة وعيونهم تبحث عن زبونٍ يمنحهم بضع ريالات. هؤلاء ليسوا بائعين محترفين، بل أطفال تركوا مدارسهم وبيوتهم وذكريات ألعابهم ليواجهوا قسوة الحياة بأيديهم الصغيرة. غادروا مقاعد الدراسة إلى الأرصفة، وبدلاً من الحروف صاروا يعدّون النقود المعدنية الملطخة بعرقهم.

إنها مأساة تُختصر في مشهد طفلٍ ينام على الرصيف متعباً من يومٍ طويل، أو آخر يدخل أحد البنوك ليبيع مناديله ويستريح قليلاً على كرسيّ، فيغفو غفوته الأخيرة. جلس ليرتاح… ولم يقم. قصة كهذه ليست استثناءً، بل عنوانٌ متكرر لمئات القصص التي لا تصل إلينا. أطفال يموتون بصمتٍ في زوايا الحياة، لا تُكتب أسماؤهم في نشرات الأخبار، ولا يتحدث عنهم أحد في قاعات البرلمان أو مكاتب المسؤولين.

كم من طفل ترك أمه المريضة ليبحث عن لقمةٍ يسد بها رمق أسرته، وكم من آخر فقد والده فعاد ليتولى هو إعالة إخوته. في وطنٍ أنهكته الحروب وسرقت منه الحكومات فُرص العدالة، صار الطفل هو الضحية الدائمة لكل فشلٍ اقتصادي وسياسي وإداري. كل إدارةٍ فاشلة، كل قرارٍ مؤجل، كل مشروعٍ منهوب، يدفع ثمنه هؤلاء الصغار الذين لم يجدوا من الوطن دفئًا ولا حضنًا ولا مدرسة.

في اليمن، لم تعد الطفولة مرحلة نموٍّ طبيعي، بل صراعٌ يوميٌّ مع الجوع والخوف والتعب. أطفال يبيعون الماء في الشوارع، أو يجرّون العربات في الأسواق، أو يعملون في ورشٍ خطرة لا تليق حتى بالرجال. أجساد نحيلة تتحمل فوق طاقتها، وعيونٌ غائرة تخفي بين نظراتها أسئلة مؤلمة: لماذا نعيش هكذا؟ وأين أولئك الذين وعدوا بخدمة الشعب؟

في المقابل، يجلس السياسيون في الخارج على موائد الطعام العامرة، يتبادلون الابتسامات والاتفاقيات، وكأن هذا الشعب لا يعنيهم. لم نسمع يوماً برلماناً يناقش مصير الأطفال، ولا حكومةً تضع خطةً وطنية حقيقية لإنقاذهم، ولا قائداً يتحدث عن حقهم في الطفولة. الوطن الذي ينسى أطفاله يكتب نهايته بيده، لأن هؤلاء الصغار هم مستقبله، فإذا شبّوا على المرارة فكيف سيبنون غداً مؤمناً بالوطن؟

الصور التي نشاهدها في الشوارع ليست إلا جزءاً يسيراً من الواقع. هناك آلاف الأطفال الذين لا تراهم الكاميرات، يعملون بصمتٍ في الجبال، في الورش، في المزارع، في المقاهي، يعيشون حياةً قاسية بلا مدرسة ولا رعاية ولا أحلام. إنهم الجيل الذي يُكسر أمام أعيننا ولا نحرّك ساكناً.

المسؤولية اليوم ليست ترفاً إنسانياً بل واجب وطني. لا يمكن أن نبني دولة فيما أطفالها يعملون بدل أن يتعلموا. يجب أن تكون هناك وقفة جادة، برامج واقعية، حلول جذرية تعيد الطفل إلى مكانه الطبيعي: المدرسة، البيت، واللعب. نحتاج أن يشعر كل مسؤول بأن كل طفلٍ عاملٍ في الشارع هو شهادة إدانة له شخصياً.

ما ذنب هؤلاء الأطفال الذين دفعوا ثمن طفولتهم ووطنهم مقدّماً؟ كيف نطلب منهم أن يحبوا وطناً لم يمنحهم سوى التعب والجوع؟ إلى متى نظل نتغاضى عنهم وكأنهم مجرد مشهدٍ عابرٍ في زحام الحياة؟ إن استمرار هذا الصمت جريمة بحق الأجيال القادمة، وجريمة بحق الإنسان نفسه.

أطفال اليمن لا يريدون صدقات، بل يريدون حقهم الطبيعي في الحياة، في التعليم، في الأمان. يريدون وطناً عادلاً، ومسؤولين يخافون الله فيهم، ومجتمعاً لا يتجاهلهم. إذا أردنا أن نرى مستقبل اليمن مشرقاً، فلنبدأ من عيون هؤلاء الصغار التي أرهقها الغبار والجوع، ولنحفظ لهم طفولتهم قبل أن يسرقها الفقر والحرب إلى الأبد.