آخر تحديث :الجمعة-24 أكتوبر 2025-02:07ص

مجلة جرهم


الرواية والحرب.. وعاء الذاكرة وسرديات الجراح المفتوحة

الرواية والحرب.. وعاء الذاكرة وسرديات الجراح المفتوحة

الجمعة - 24 أكتوبر 2025 - 02:07 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ دفكرية شحرة ــ روائية وكاتبة يمنية


الحرب ليست إلا وجعًا، ومن الصعب نسيان الوجع، وما أكثر الحروب، وما أكبر الأوجاع. للحرب تكتيك يشبه في تفاصيله بعض ملامح الأدب، وانتشارها يشبه اتساع الجراح، سواء على تضاريس الضحايا أو على صفحات البلدان، بل وحتى في سطور الرواة. ومن قسوة ألم هذه الجراح؛ حين تنزف الإنسان دمه وروحه، أو كليهما، تنشأ الحاجة إلى من يروي؛ لأن المنتصر –غالبًا– يحاول طمس وحشيتها وعبثيتها، إن كانت عبثية فعلًا. هنا يظهر الراوي، معايشًا أو مراقبًا، يتألم من بعيد، يحاول أن يختصر الوجع الكبير، ويسرد النزيف الغزير، ويجعل من الحكاية خيطًا منظمًا في فوضى الدم. وفي هذا المسعى، تختزل الرواية الزمان والمكان والإنسان –سواء كان قاتلًا أو ضحية– في كتاب يجسّد ما أمكن تجسيده، بفنٍ هو الرواية، وسرديةٍ هي الجراح، تتشكّل منها وفيها ذاكرة الصراع وتفاصيله.
"مئة عام من العزلة" .. رواية حاول من خلالها "غابرييل غارثيا ماركيز"، اختصار جزء من تأريخ أمريكا اللاتينية في سياق رمزي وأسطوري، وكيف أن عائلة تُدعى "ماكوندو" عبر أجيالها المتعاقبة تسببت في دوامة عنف وصراع عبثية متكررة عبر تأريخ طويل نتجت عنها العزلة، والمأساة، والانهيار الأخلاقي، ودون أن تتعلم من أخطاء الماضي ظلت الأجيال المتعاقبة تعيد تدوير المأساة والصراع والسعي خلف السلطة أو المجد، والانغماس في الأوهام كلعنة حلت على تلك البلاد ..
هل كان يعلم "غابرييل ماركيز" أن "سلالة" في الجزء الآخر من الأرض، وفي بلدٍ يسمى "اليمن" ظلت لأكثر من ألف عام، تمارس تلك الدوامة من الحرب تحت غطاء واسع من الأوهام والتأصيل والتفاصيل المغلوطة التي تبرر من خلالها إشهار السيف واستمرار النزيف وتدوير دوامة العنف .. لقد استمرت كذلك -وما تزال- تنتج كل قرن نماذج مختلفة للوحشية والعبث المفرط بالإنسان اليمني في كافة تفاصيل حياته..
هنا يبرز دور الأدب على اختلاف فنونه -سواء الشعر أو الرواية أو القصة- في ملامسة الواقع وتجسيد تفاصيله.. في هذه المادة سنناقش عددًا من المحاور المتعلقة بالرواية والحرب وكيف تعتبر الرواية وعاء لذاكرة الحروب، وبها يتم تجسيد آلامها وتخليد بعض مآسيها ونتائجها المختلفة ..

أرشيف وجداني
لعل الصورة الأولية لفن الرواية ومقام الراوي، هو عشق البشر منذ القدم لقص بطولاتهم وسيرهم وحتى أساطيرهم شفهيًا في تجمعاتهم ومسامراتهم، فن كتابة الرواية أتى تطورًا طبيعيًا لهذه الرغبة بوجود الطباعة والقراء.
ظهر فن الرواية حديثًا بعد أن تشعبت المجتمعات واختلفت القوانين والعادات وتباينت السلوك والطبائع، وزاد وعي الإنسان بوجوده ورغبته لاكتشاف ماهية هذا الوجود، وسبر غور نفسية البشر ككل. لجأ الإنسان إلى التعبير عن تجربته في الحياة وتجارب مجتمعه والحديث عن مكنونات أحلامه وشطحات خياله بواسطة نص نثري طويل السرد، يغوص عميقًا في النفس البشرية ويصف حالاتها وتجاربها وتفاعلاتها مع الأحداث حولها.
الرواية وإن لم تكن وثائق تاريخية معتمدة هي بوابتنا لفهم المجتمعات وتفاصيل حيواتها ومعرفة تطور النفس البشرية وسبر غورها وتقلباتها عبر الزمن.
بالنسبة لأدباء العرب أصبحت الرواية ديوان العصر بعد أن اختطفت هذه التسمية من الشعر الذي يتربع على قلوب العرب، وما زال الأدباء يثرون الوجدان العربي بأعمالهم الروائية منذ رواية (زينب) لهيكل وحتى الآن.

التسميات والتقسيمات
مثل كل فن تشعبت تقسيمات الرواية بتطورها وتباين مضامينها وإن كانت كلها تحت مظلة الأدب الإنساني. وظهرت تقسيمات متعارف عليها لدى النقاد والدارسين. تقسيمات بحسب المضمون أو الشكل أو الزمان والمكان أو جنس الكاتب هل رجل أم امرأة، فعلى سبيل المثال: هناك الرواية الاجتماعية وهي التي تتحدث عن أمراض المجتمعات وعللها أو حتى جمالياتها وأشهر أمثلتها ثلاثية نجيب محفوظ، و "آنا كارنينا" ل "تلستوي"، وهناك الرواية السياسية وهي التي تتمحور حول نقد السياسة كرواية أوريل "1984 " ورواية "الزيني بركات" لجمال الغيطاني, التي تمثل نقدًا سياسيًا ورواية تاريخية في ذات الوقت، أما تلك الروايات التي تتناول عاطفة الإنسان وقصص الحب ولواعج الفراق وكل ما يندرج في هذا الشأن، كروايات "أحلام مستغانمي" أو "الأجنحة المتكسرة" لجبران، فإنها تندرج في إطار الروايات الرومانسية.
وهناك أيضًا الرواية التاريخية، والرواية الفلسفية والوجودية، وروايات الخيال العلمي، وروايات السير الذاتية.. تصنيفات وتقسيمات متعددة لفن الرواية قيدها النقاد بحسب الشكل والأسلوب والبنية وكذلك الزمان والمكان.
ظهر أيضا مصطلح أدب الحرب يخص الروايات التي تتحدث عن الحروب بشكل رئيس، وعادة ما تكون تجربة مباشرة أو سردًا للآثار النفسية التي تخلفها تلك الحروب، حيث يعمد أدباء أي بلد إلى كتابة الرواية، يصورون من خلالها معاناتهم ومآسي بلدانهم، ففي كل حقبة حرب يصب لنا الإبداع سيلًا من هذا النوع، وكل كاتب يدلي بدلوه في الكتابة عن الحرب من منظوره الشخصي ليسقطها على مجتمعه في أحداث تنشئها الحرب وتترك أثرها على الفرد والمجتمع.
ولعل هذه الطفرة الإبداعية التي تحدث في الساحة الأدبية اليمنية مثال واضح لتأثير الحروب وآثارها على المبدعين، هناك غزارة غير مسبوقة لكتابة الرواية وغالبًا الرواية الأولى.
ورغم أن الإنسان يشعل الحروب منذ القدم فهناك ملاحم قديمة جدًا تتحدث عن الحروب وآثارها, وأشهرها "الإلياذة" لهوميروس، إلا أن تسمية أدب الحرب ظهرت في القرن العشرين تقريبًا، ويعود السبب إلى نضوج النقد وتفرعه الذي أخذ في تقسيم أنواع الروايات بصورة أكثر شمولية وتدقيقًا. كما ساهمت غزارة الإنتاج الأدبي في هذه التيمة من جعلها صنفًا أدبيًا متعارفًا عليه تتقاسم ذات السمات.

صوت من لا صوت لهم
فن الرواية وإن لم يكن تاريخًا موثقًا إلا أنه يتم به تخليد تفاصيل مآسي الحرب، وتُنقل هذه التفاصيل من جيل إلى آخر، هي ذاكرة الشعوب في توثيق أحزانها وأحداثها، ومهما حاول المؤرخون تجميل الماضي البشري أو تزييفه تظل الحكاية والقصة والرواية بمثابة ذاكرة المجتمعات التي تحتفظ بمشاهد النزوح والموت، والجوع والاضطرابات النفسية والقتل الوحشي.
بفضل الرواية استطعنا أن نعرف ملامح ودقائق حياة الناس العاديين حين نشبت حروب سابقة كالحربين العالميتين أو حرب فيتنام، فقد كتب عنها أدباء الغرب باستفاضة، ومن خلالها قرأنا حزن الأم، وفقد الأبناء، وفراق الأحبة، وخراب المدن، حكايات أشخاص لن يذكرهم أحد.
جوهر روايات الحرب أنها لم تهتم بالإحصاء أو التقارير السياسية بل وصفت لنا دقائق الحياة الإنسانية ومعاناة الناس, وكيف تجاوزوا الكارثة أو قتلوا دون أن يأبه لهم أحد. رافقنا أبطال الروايات في أحداث يخيل للقارئ أنه يعيشها بنفسه مع كثيرين من حوله خلال الحرب.
أظهرت الرواية ضعف الإنسان أمام آلة الحرب وكيف يتحول الرفاق إلى أعداء، كيف يكون الفقد قاتلًا للأحياء, وكيف أن أثر الحرب أحيانًا أقسى من الحرب نفسها.
رواية الحرب ليست كلام الساسة وتصريحاتهم بل هي رأي العامة وحكايات معاناتهم، هي إدانة لمن يتسبب في نشوبها، وهي صوت المهمشين والملايين الذين يُقتلون في الحروب دون صوت يتحدث عنهم.
رواية الحرب تدين الحرب وتشرح عمق جرمها ضد الإنسان من أجل صالح فرد أو حتى جماعة، وهذا قمة العبث في حياة البشر. هي في رأيي رسالة سلام لأنها تنشر التعاطف مع الآخر، حين تقرأ مأساته وتعرف عمق ألمه، هي فن إنساني رغم أنها توثيق لوجع الإنسانية. هي دعوة للتفكير في ماهية الحرب وما تجره على الإنسان من خراب، دعوة لرفضها ومقاومتها.

الكتابة هي الحل
تحول الحرب الأديب إلى كتلة من المشاعر، يصارع الغضب والحزن والخوف، شعوره بهذا العبث يفجر طاقاته الإبداعية فيستحيل إلى شاهد على اللحظة، يسجل يوميات التوتر والصدمة والحزن، ويعلن حربه الخاصة، ويحمل سلاحه الوحيد، ليكتب مقيدًا أوجاع شعبه في صرخة حية لا تندثر.
إنه واجبه الأخلاقي والإبداعي، أن يكتب ضد القهر والظلم والعبث، ضد فقد الهوية وضياع الوطن، ينزف الكاتب بعد أن أصابته الحرب بجرح عميق في سلامه النفسي وأمانه الوطني.
الحرب لا تُسبب فقط في إخراج الحياة عن مسارها الطبيعي، بل إنها تدمر حياة الشعوب وتخرجها عن ركب الوجود، في وضع فارق كهذا يتشارك ألمه الجميع، يصبح ألم المبدع أضعافًا، وتصبح الكتابة هي الحل، واجبًا لا ترفًا، هي مقاومة حقيقية ضد تزييف ما يحدث، فالحرب لا تطمس المدن فقط، هي تطمس الحقائق أيضًا. يصبح الجاني بطلًا، والناس مجرد أرقام، وعلى عاتق الكاتب أن ينفخ الحياة في هذه الأرقام ويتحدث باسمها، يكتب وجع الأمهات وفقد الحبيبات ويُتْم الطفولة، واغتراب الهوية.
نبع الإبداع هو الألم، ولا يوجد أشد ألـمًـا من الحرب حين تسحق الأوطان، فلا غرابة أن تصبح الحرب محفزة لروح المبدع وإن كراهية وبغضًا.

أدب الحرب يشبه الحرب
فالحرب تجربة قاسية تفرض على الكاتب أسلوبًا خاصًا في كتابة الرواية، وأبرز الأساليب هو الواقعية، حيث الواقع أشد مرارة من الخيال، ينهل منه الكاتب أحداث ودقائق وصفه لما حوله بواقعية مفرطة، أحيانًا في ثوب التوثيق المغري.
وهناك روايات حرب سيطر عليها السرد الداخلي لبطل الرواية في حديث نفسٍ طويل يُظهر بوضوح أثر الحرب على النفس البشرية، فالحرب صدمة تهز النفس وتحيطها بتساؤلات كثيرة عن جدوى الحياة أو لماذا يحدث كل هذا؟!.
وقد تكتب بأسلوب تعدد الأصوات، فتبدو ضجيجًا متفجعًا لأصوات الشخوص في الرواية وهم يسردون تفاصيل نكبتهم.
يسيطر على أجواء أدب الحرب ارتباك الخط الزمني للرواية، فالعودة إلى زمن مضى أمر سائد يغذيه الحنين والحزن على من فقد أو ما فقد.. يخلط الكاتب بين الماضي والحاضر ببراعة من خلال تقنية الفلاش باك ليعمق حدة الفجوة بين زمن الحرب والسلم ومدى الحزن والفقد في الرواية.
بمعنى أكثر تحديدًا رواية أدب الحرب ليس لها أسلوب محدد، كل كاتب له مقدرته على خلق أسلوب مميز لدى القارئ، لكن رواية الحرب يغلب على أجوائها الحزن والفقد والكآبة تكتب بعاطفة فائضة في لحظة مشحونة بالصدمة.

بين العرب والغرب
ما يميز الروايات العربية لأدب الحرب هو العاطفة الزائدة نحو القضية التي يحملها الكاتب باختلاف الأيديولوجيا، تركز الرواية العربية على الألم الجماعي الذي تحدثه الحرب وآثارها على المجتمعات بشكل عام، ترافق الرواية مشاهد المخيمات والنزوح واللجوء، والمنافي والسجون.
وقد كانت الأسبقية للرواية الفلسطينية في رسم هذه المشاهد عبر روايات أدبائها وعلى رأسهم "غسان كنفاني" ورواياته (رجال في الشمس) و(عائد إلى حيفا)، وإبراهيم نصر الله ورواياته حول الملهاة الفلسطينية، كذلك رواية (باب الشمس) لإلياس خوري، حيث تتجسد خصائص الرواية العربية، الرواية تسرد مأساة العرب جميعًا وإن كانت حول الحرب الفلسطينية الإسرائيلية.. ففيها تتجلى سمات الرواية العربية لأدب الحرب.
أما الرواية العالمية فتتناول ثيمة الحرب كعبث يقع ضحيته الإنسان تحت دعاوى وأوهام كبرى، كما حدث في الحربين العالميتين، لذا يركز الأدب العالمي على الفرد ومعاناته أكثر.
كما في رواية (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) للكاتب الألماني "أريك ماريا ريماك"، ويكفي أن نعلم أنها منعت في ألمانيا كونها ترفض تمجيد الحرب وتصور عبثتيها وكيف دمرت نفسية الشباب وحولتهم إلى آلات دمار.
بشكل عام الرواية العالمية أكثر نضوجًا من حيث الأسلوب الفني، كما أنها أعمق في التحليل النفسي بحكم الفردانية التي تدور حولها الرواية.. في حين أن الرواية العربية أكثر توجهًا إلى الموقف الأخلاقي أو نقد السياسة والتخاذل العربي.

الرواية وهشاشة الإنسان
الرواية بطريقة أو بأخرى تمجد هشاشة النفس البشرية، وكلما كانت الشخوص حقيقية في مشاعرها ودواخلها كانت الرواية ناجحة.. ومع ذلك تكمن براعة الكاتب وجودة الرواية في كيفية سرد هذه الهشاشة لتصل للقارئ كأنما يعيشها.. بينما اللغة والأسلوب هما المحكان في تجسيد حالة النفس البشرية.
أتاحت تقنيات الرواية مثل "حديث النفس" قدرة على الغوص في عمق هذه النفس وإظهار هشاشتها وقبحها أحيانا حين تضعف أمام القوى الغاشمة، والسؤال هو إلى أي مدى تعري الرواية ضعف الإنسان وهشاشته؟!، وهل هشاشة الجسد أمام أداة القتل؟؛ فالحرب تفقد الدم حرمته والإنسان كرامته، فيُقتل ويسحل ويدفن الآلاف دون ذنب أو جريرة، ويصبحون مجرد أرقام في ملفات. أليست قمة الهشاشة هنا؟!.
لا تكتفي الحرب بهشاشة الأجساد والأرواح لكنها على المدى البعيد تفرز هشاشة في الوعي والعقل، وفي غياب العدل وتفشي الظلم والجبروت، فتبدو أسئلة: ما جدوى كل هذا؟!
تفضح رواية الحرب هشاشة أشد, وهي تداعي القيم والأخلاق والتوحش البشري في ظل الحرب؛ فالأخ يبيع أخاه، والجار يقتل جاره، والجميع يتسابقون نحو البقاء على حساب كل شيء.
أدب الحرب أيضًا يفضح مدى هشاشة الهوية واللغة في حال اكتساح طرف في الحرب، وما يترتب عليه من تغيير في بنية المجتمعات. لعل أكثر رواية أوضحت هذه الهشاشة الإنسانية هي رواية (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) فقد جسدت هذه الرواية المعنى بكل تفاصيله.

أخيرًا
بالنسبة لنا هناك غزارة في الإنتاج الروائي اليمني الذي يندرج تحت ما يسمى بأدب الحرب، وإن كان هذا الانتاج من وجهة نظري خليطًا من الأجناس الروائية تراوح ما بين الرواية الاجتماعية والنفسية والسياسية والعاطفية وحتى التاريخية، فالفصل بين أنواع الرواية بالنسبة لأدباء يريدون أن يقولوا كل شيء بين دفتي رواية أمر صعب، بل إن القارئ للرواية اليمنية يشعر أن الكاتب متعطش للبوح بكل معاناة مجتمعه وجيله من تراكمات تاريخية طفحت في وجهه وهو يكتب عمله الأدبي كاعتراف إنساني.
تظل رواية أدب الحرب شاهدًا حيًّا لكل ما قد يغفل عنه التاريخ أو تختصره التقارير، فهي سجل وجع الشعوب وذاكرتها التي لا تمحى.