✍️ كتبه: د/ بندر بن عبدالله النبوص
استشاري تطوير التخطيط والتأهيل للقيادات العليا
في كل مؤسسة، ثمة من يبني الثقة ويُشيّد جسور التعاون، وثمة من يقتات على فتات الشائعات والظنون؛ ذلك الموظف الذي يجيد الطيران بين المكاتب، لا طيران الإبداع والإنجاز… بل طيران الوشايات، يلتقط الكلمات ويصنع منها رصاصات موجهة نحو سمعة الآخرين.
وما أصعب أن تتحول كلمة منقولة بلا تحقق إلى شرارة تهز ثقة مؤسسة، أو تدفع صاحب قرار إلى خطوات متهورة، فقط لأنه أصغى لصوت “عصفور” صوّر نفسه مخلصًا، فإذا به يُخرّب العش كله!
⸻
حادثة تكشف حجم الخطر
تلقيت اتصالًا عاجلًا من مدير العلاقات العامة في إحدى الشركات، فاستجبت فورًا تقديرًا للجهة ولمنصب المتصل. لكن المفاجأة كانت حين واجهني بسؤال غريب:
“قيل لنا أنك أسأت لشركتنا في مؤتمر تدريبي!”
كانت الصدمة كبيرة، لأنني — على العكس — أثنيت على بيئتهم المؤسسية ووصفتها بأنها بستان مبهج يدفع نحو التحفيز المهني، بل مازحت مديرهم آنذاك بقولي:
“هل لديكم وظيفة بلا راتب؟ فقط لأن المكان يستحق!”
وكان ذلك قبل ثلاث سنوات بزيارة يتيمة لا أكثر!
وبعد تتبع مصدر الإشاعة، تبيّن أن موظفًا في شركة شقيقة داخل المجموعة ذاتها أراد استغلال فرصة للمساس بمكانة المؤسسة المنافسة، فاختلق رواية مفادها أنني وصفت بيئتهم بأنها “بيئة سامة”! وهي عبارة لم تخرج من لساني يومًا.
الأدهى أن مدير العلاقات — ولعله يقرأ الآن — طلب مني إثبات أنني لم أقل ذلك!
وكأن الأصل هو الاتهام حتى تثبت البراءة، لا أن يكون النقل هو ما يحتاج لدليل!
قدمت له مقاطع الفيديو، وقلت:
إن ظهر العكس فاشتكوا بي، وإن ثبت صدقي فعلى مديركم الاعتذار!
وبعد أن رأى المقطع وسمع الثناء بعينيه وأذنيه…
جاء الاعتذار، ولكنه اعتذار ناقص، ولم يُنفّذ ما تم الاتفاق عليه — فقط لأن العصفور المقرب لديه شُرع له باب الثقة بلا تمحيص!
⸻
العصفور… خطر صامت
في بعض المؤسسات، يتشكل نمط هو الأكثر إيذاءً:
موظف يتقن دور العصفور…
يلتقط الكلمة، يُضيف إليها من خياله، ثم يطير بها إلى مكتب المدير، باعتباره عينه التي لا تنام ومصدر أسراره السري.
لكن الحقيقة أن دافعه ليس حماية المؤسسة بل حماية نفوذه الشخصي، عبر إسقاط زملائه وصناعة روايات تحرّكها الغيرة والحسد والمنافسة غير الشريفة.
⸻
صفات “عصفور الوشايات”
لتمييزه والحذر منه:
1.يبحث عن الأخطاء وينفخ فيها.
2.ينقل نصف الحقيقة ويطمس النصف الآخر.
3.يستغل الثقة لتحقيق مكاسب صغيرة على حساب صحة بيئة العمل.
4.يزرع الشك بين الموظفين، وهو في الخلفية يتقمّص دور المنقذ!
5.يكون خطره مضاعفًا عندما يقترب من صاحب القرار.
⸻
خلاصة خبرة ومشاهدة
•المؤسسة التي تصغي للعصافير… تخسر الصقور!
•الشائعة التي تُتخذ على أساسها القرارات… هي قرار أعمى يرتدي بدلة رسمية!
•من ينصّب نفسه عين المدير… غالبًا ما يكون أعمى عن الحقيقة!
•الثقة حين تُمنح بلا ضوابط… تتحول إلى سلاح بيد غير مستحق!
•منظمة لا تستند قراراتها إلى الدليل… تفتح أبواب الفوضى والانقسام!
⸻
كيف نحصّن المؤسسات من هذا الخلل؟
1.ترسيخ مبدأ: الدليل أولًا… قبل أي إجراء.
2.وضع سياسة واضحة ومؤسسية لنقل الشكاوى والملاحظات.
3.تعزيز الشفافية والأمان النفسي لمنع تداول المعلومات خلف الأبواب.
4.محاسبة كل من يثبت تعمده اختلاق أو تحريف معلومة.
5.تدريب القيادات على إدارة الإشاعات والمعلومات الناقصة.
⸻
كلمة أخيرة..
آفة نقل الكلام ليست مشكلة فردية؛
إنها خلل إداري وثقافي يبدأ من موظف صغير، وقد يصل إلى قمة الهرم إذا لم يُواجه بحزم!
فالمؤسسات التي لا تُحسن إدارة الكلمة المنقولة قد تصبح ضحية عصفور صغير قادر على إشعال حرائق عظيمة… بلا أثر يدل عليه!
وإن انتهت قصتي باعتذار خجول…
فالعبرة ليست في الاعتذار بل في السؤال:
إلى أي مدى يمكن لوشاية واحدة أن تُحرّك مؤسسة بأكملها…
في غياب نظام يمنع عصفورًا من تخريب العش؟