آخر تحديث :الأحد-30 نوفمبر 2025-08:27م

مجلة جرهم


جيل تحت النــار .. التعليم في دوامة الحروب

جيل تحت النــار .. التعليم في دوامة الحروب

الأحد - 30 نوفمبر 2025 - 08:26 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ رفيق الرميش ــ سكرتير التحرير

مقدمة
عندما نتحدث عن المدرسة فنحن نتحدث عن المحرك الأساسي في نهوض وتطور الأمم، ومنذ فجر الحضارات ظل التعليم فعلا تأسيسيًّا لا يقل أهمية عن الزراعة؛ بل يفوقها في الأثر، فهو ينتج الإنسان القادر على صيانة ما تنتجه الزراعة، ولهذا طالما ارتبط مفهوم المدرسة بالاستقرار، والمكان الآمن الذي يذهب إليه الطفل بغرض إعادة ترتيب الفوضى المعرفية التي يواجهها في أولى احتكاكاته بالعالم.
وعندما تنهار فرضية الاستقرار والمكان الآمن فهذا يعني أن الطفل سيكبر في بيئة يعتبر فيها الطريق إلى المدرسة مغامرة وجودية، ويصبح مقعد الدراسة موقعًا محتملًا للموت لا للدرس، أما المدرسة فستنقلب وظيفتها من حاضنة للطفولة إلى ساحة تجنيد ضمني للهلاك.
في الدول العربية التي تعيش تحت وطأة الصراعات والنزاعات المتعددة، هناك أجيال كاملة نشأت في بيئات تتراوح بين الحرب الأهلية، والاحتلال، والفوضى السياسية، والإرهاب المسلح، ولأن هذه الصراعات لا تؤدي إلى خسائر بشرية ومادية كثيرة فقط، بل تؤدي إلى خسائر فكرية يدفع ثمنها هذا الجيل الذي نشأ في زمن الحرب وبسببها فقد سنوات دراسته.
لطالما كان الطالب والمعلم أول المتضررين من النزاعات في العالم العربي -في وقت وجب أن يكون فيه الإنسان أولًا والتعليم هو أكبر المقومات الأساسية لذلك- حيث شهدت معظم الدول العربية صراعات دموية أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من الكوادر التعليمية والمتعلمين، إلى جانب تدمير واسع للمؤسسات التربوية، مما تسبب في تراجع مستوى التعليم، وأدى أحيانًا إلى انهياره بالكامل.
مدارس مدمرة
من اليمن إلى سورية، ومن السودان إلى فلسطين، لم يعد التعليم جزءًا من العملية التنموية، بل أصبح مجرد معركة أخرى في ميدان مشتعل لا مكان فيه للكتب إلا بوصفها عتبات أيديولوجية، أما المعلم فلا يعدو عن كونه رمزًا انكسر حضوره وسط دوامات القصف والانهيار المادي والمعنوي.
وعندما تصبح الجغرافيا ساحة نزاع طويل، تكون المدرسة أول الأبنية القابلة للسقوط، وهذا ليس بسبب أنها أضعف ما في المعادلة، بل لأنها أكثر ما يخيف الأطراف المتقاتلة، لأنها لا تريد أن تنشأ فكرة الحياد أو التنوير، وتخاف من وجود مكان قد يسهم في إنقاذ طفل من أن يكون وقودًا للحرب.
إن استهداف المدارس في العالم العربي لم يكن مجرد أضرار جانبية للحروب وهو ما تحولت بفعله بعضها إلى ملاجئ أحيانًا، بل سياسة ممنهجة لتفريغ المجتمعات من الأدوات أو الوسائل التي تساعدها في البقاء, والمتمثلة بالوعي والمعرفة، لذلك لم تسقط الأبنية فقط في مناطق النزاع، بل تعطلت الرسالة التربوية، وتحول الطفل من تلميذ إلى لاجئ معرفي تتقاذفه ظروف النزوح، والخوف والانقطاع الطويل عن التعليم.
إحصاءات مرعبة
وفي قلب هذا الخراب، تسجل الإحصائيات أرقامًا صادمة ترصد حجم الكارثة التعليمية في بلدان عربية مزقتها الحرب وأعادتها عقودًا إلى الوراء، ففي السودان على سبيل المثال، يبلغ عدد المدارس 22 ألفًا، توقفت منها 14 ألف مدرسة بسبب الحرب، وتحولت 6 آلاف مدرسة إلى مراكز لإيواء النازحين؛ مما أسهم في زيادة أعداد الطلاب المحرومين من الدراسة من 7 ملايين قبل اندلاع الصراع الحالي إلى 17 مليونًا من أصل 19 مليون طفل في سن الدراسة.
وفيما يتعلق باليمن، يشير تقرير "منظمة رعاية الأطفال" في مارس 2024 إلى أن عدد المدارس التي خرجت من الخدمة بسبب الحرب بلغ 2426 مدرسة بنسبة 15% من إجمالي عدد المدارس البالغ 16034 مدرسة، كما أظهرت وثيقة أممية في اليمن لعام 2024، أن أكثر من 4.5 مليون يمني لا يذهبون إلى المدرسة؛ إما بسبب ظروف الحرب أو العجز عن توفير متطلبات الدراسة, أو خوفًا من مخرجات بعض المدارس.
وفي هذا السياق وصف ممثل منظمة اليونيسف في اليمن، بيتر هوكينز، هذا العدد بالقنبلة الموقوتة، مشيرًا إلى أنه "في غضون ما بين خمس وعشر سنوات، ربما يكون الجيل القادم أميًّا، بل ولديه القليل جدًا من المهارات الحياتية، وهذا سيكون أمرًا إشكاليًا أكثر وأكثر مع انتقال البلاد إلى المرحلة التالية مع جيل جديد"، ونضيف فنتوقع أن ننصدم في المستقبل بجيل منسوخ الفكر أو ممسوخ الهوية.
ولم يختلف الأمر كثيرًا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تسببت الهجمات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023 في تدمير 93% من إجمالي مدارس قطاع غزة البالغ عددها 593 مدرسة، وتسببت القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين والخوف من العنف في إغلاق نحو 20% من مدارس الضفة الغربية.

مشاريع للتجنيد
لا يتوقف تأثير الصراع عند تدمير المدارس أو توقف العملية التعليمية، بل يتعدى ذلك، حيث يصبح الطفل هدفًا ثمينًا لأطراف الصراع، فتتوجه البوصلة نحوه نظرًا لأن عقليته قابلة للتشكيل.
ولا يأتي تجنيد الأطفال دائمًا بزي عسكري مباشر؛ بل يبدأ داخل المدرسة، بعد أن يتم تحويلها من مساحة للتعلم إلى منصة لزرع الأيديولوجيات وإنتاج الولاء، حيث يعاد تشكيل وعي ذلك الطفل ليصبح أداة في مشروع سياسي أكبر منه، يتبنى من خلاله لغة السلاح قبل أن يتمكن من إتقان لغته الأم.
وتبدأ العملية أحيانًا بأناشيد عسكرية أو زوامل حماسية, وشعارات تفرض في الطابور الصباحي، إلى جانب صور رموز مسلحة تعلق فوق السبورات وعلى الجدران، ثم محاضرات عقائدية تزرع في ذهن الطفل الأفكار التحريضية المتطرفة.
وتعد اليمن وسورية أكثر البلدان العربية تجنيدًا للأطفال حيث قالت الأمم المتحدة في آخر إحصائياتها عن تجنيد الأطفال في سورية في عام 2023: إن عددهم اقترب من 3 آلاف طفل، توزعوا على ثلاثين تنظيمًا مسلحًا، تنشط في أنحاء مختلفة من سورية، وتتراوح أعمار الأطفال ما بين التاسعة والسابعة عشرة من العمر، وأغلبهم من الذكور وقلة من الفتيات، وأكدت الإحصائيات بأن نحو ثلث المجندين كانوا في مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرقي سورية.
وفي اليمن كشف المركز الأوروبي للدراسات ومكافحة الإرهاب عن تجنيد أكثر من 17000 طفل خلال السنوات الماضية من قبل جماعة الحوثي، كما وثقت تقارير أممية، منها تقرير لفريق الخبراء المعني باليمن الصادر عن مجلس الأمن، تورط الحوثيين في تجنيد الأطفال في جميع المحافظات الخاضعة لسيطرتهم، بما في ذلك استخدامهم في المهام القتالية، والحراسة، وزراعة الألغام، والعمل كمخبرين، كما رُصد استخدام فتيات في مهام لوجستية واستخباراتية، وهو انتهاك مزدوج للطفولة والإنسانية.
مناهج مفخخة
لم تكتف الكيانات والجماعات المسلحة في مناطق الصراع في الوطن العربي باستخدام الرصاص وحده لفرض سيطرتها، بل قامت بتعديل وصياغة محتوى مناهج التعليم بما يتناسب مع رواية الطرف الأقوى، وبما يخدم العقيدة الجديدة التي تفرضها السلطة المسيطرة.
لقد أصبح الطفل في هذه المناطق مجرد وعاء تفرغ فيه أطراف الصراع كل فائضها العقائدي، من خلال مناهج تعليمية لم تكتب لكي تعلمه، بل لتشكله وفق تصور الطرف المسيطر، فهذه المناهج لا تعدو عن كونها قنبلة مؤجلة، تزرع في عقله منذ الدرس الأول، وهكذا يسلب الطفل أهم ما يملكه.

إن أسوأ ما في الحروب هو التعليم المؤدلج الذي يستخدم الطفل كورقة في معركة سياسية لا يفهمها لكنه يجند فيها روحيًّا منذ نعومة وعيه، فيخرج منه فاقدًا للمناعة المعرفية ومستعدًّا للقتال من أجل أفكار لم يخترها، بل زرعت فيه كحقائق مقدسة.
ومن الشواهد على ذلك ما برز من خلال المنهج المعدل الذي أصدرته وزارة التربية والتعليم الخاضعة لسلطة الحوثيين في اليمن، والتي شملت (التربية الإسلامية، والقرآن الكريم، والعلوم الاجتماعية للمرحلة الابتدائية)، حيث أدخلت هذه المناهج الجديدة دروسًا بديلة للدروس السابقة المقررة والتي كانت معدة بطريقة تتلاءم مع المجتمع اليمني وثقافته المعتدلة التي تعزز ثقافة التعايش والسلام.
ووثقت تقارير حقوقية قيام جماعة الحوثي بإجراء تغييرات في دروس التاريخ الإسلامي وتمثلت بحذف الرموز والأعلام الإسلامية منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، كالخلفاء والصحابة والشخصيات التاريخية والإسلامية التي عاصرت زمن ما بعد الصحابة".
ومن الإضافات التي طرأت على المناهج، تمجيد القيادات والشخصيات التي يعبر عنها فكر الحوثيين منذ قرون، وفرض أمثلة واستشهادات تبرز أسماء وأوصافًا تتبنى الطائفية والمذهبية، ويضاف إلى ذلك فرض فعاليات تدعو طلاب المداس ممن هم في سن الطفولة إلى المشاركة في القتال، وجعلهم مشاريع جهادية تسعى لغسل أدمغتهم وتحويلهم إلى مخزون بشري قابل للموت.
وفي سورية أقدمت الإدارة السورية الجديدة على إجراء تعديلات على المنهج الدراسي بما سمته "تصحيحًا" للمناهج، إلا أن هذه التعديلات لم تقتصر على حذف تمجيد نظام الأسد -وهو أمر مقبول-، بل طالت مواد أساسية في العلوم والتاريخ والفلسفة.. وفي فلسطين تدس سلطات الاحتلال السموم في مناهج التعليم التي تهدف بطرق شتى إلى تغريب الفلسطينيين عن أرضهم ووطنهم، وتقوم بلدية الاحتلال في القدس المحتلة بممارسة الضغط الكبير على المدارس الفلسطينية بهدف إجبارها على تدريس المنهاج الإسرائيلي، بل وتشدد من إجراءات فتح المدارس الفلسطينية إلا بعد الموافقة على الشروط الإسرائيلية في تدريس المناهج الملغومة للطلبة الفلسطينيين.

آثار كارثية
إن استمرار الصراعات المسلحة في عدد من الدول العربية وبالتالي انهيار المنظومة التعليمية، ينتج عنه جملة من الآثار الكارثية على الفرد والمجتمع وقد يصل أحيانًا إلى دول الجوار، حيث يتعرض الطلبة لتداعيات جسيمة جراء الانقطاع المطول عن التعليم، ما يفضي إلى ارتفاع معدلات الفاقد التعليمي وضعف الدافعية نحو التعلم المستقبلي، كما تؤثر هذه الظروف سلبًا على الصحة النفسية والعقلية والاجتماعية للأطفال، فتتجسد في مشاعر الإحباط والعزلة، ويحتمل أن تؤدي إلى الانفصال النهائي عن المسار التعليمي.
أما بالنسبة للمعلمين، فتكشف التقارير الصادرة عن أن نسبة كبيرة منهم اضطرت إلى مغادرة الحقل التربوي، إما بسبب تعليق العملية التعليمية قسرًا، كما في غزة ومعظم ولايات السودان، أو نتيجة انقطاع الرواتب، كما هو الحال في المؤسسات التعليمية الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي في اليمن.
وبالنسبة للدول المجاورة للمجتمعات المتحاربة أو لمناطق الجماعات الإرهابية والمسلحة، فيبرز التحدي من خلال تصاعد وتيرة النزوح والهجرة إليها، مما يفرض تحديات إضافية وضغوطًا متزايدة على البنى التحتية للخدمات التعليمية والصحية في المجتمعات المضيفة، ويثير هذا الواقع أيضًا مخاوف من تنامي الظواهر الاجتماعية السلبية كالتطرف والعنف، والتي قد تظهر في بعض هذه المجتمعات.

جيل بلا مناعة
إن توقف المدرسة عن أداء دورها كمنظومة تربوية حامية، يفتح المجال لانهيارات متتالية في ما يتعلق بموضوع الطفولة، ولعل أولى نتائج هذه الكارثة تظهر في معدلات التسرب من المدارس، والتي تزداد عامًا بعد عام كلما طال أمد الصراع، وما نراه في اليمن دليل واضح على ذلك، حيث كشفت الأمم المتحدة عن وجود أكثر من مليوني طفل خارج المدرسة، وهذه البيانات بحد ذاتها صادمة إذا ما تخيلنا مستقبل البلاد مع وجود هذا العدد، وأين سيكون موقعهم في المستقبل.
ومع تفشي الفقر بالتوازي مع غياب الدور الفاعل للمدرسة، تندفع أعداد متزايدة من الأطفال نحو سوق العمل، لذلك نراهم في الجولات وفي الورشات يقومون بأعمال لا تتناسب مع أعمارهم ولا تصلح إلا للكبار، ولكنهم مجبورون على القيام بهذا الشيء الذي قد يدر دخلا زهيدًا لأسرهم التي فقدت كل شيء، فينهك هذا الطفل ويستهلكه قبل أن يكتمل.
أما الفتيات فلهن وجه خاص من المعاناة، فعندما تنهار المنظومة التعليمية وينهار الوضع المعيشي، يسقط حاجز الحماية فيغدو الزواج المبكر هو الخيار المتاح لحمايتها في نظر الأسرة أو لتقليل العبء في ظل بيئة خانقة. وهكذا تنتج الحرب جيلًا خرج من المدرسة لا ليذهب إلى بديل أفضل، بل إلى دوامة اجتماعية قاسية: ذكور يعملون بلا حماية، وإناث يزج بهن في علاقات قسرية، وجميعهم بلا أفق معرفي يضيء مسارهم، وعوضًا عن التعليم كأداة للتمكين، يصبح الانقطاع عن المدرسة بوابة واسعة لإعادة إنتاج التهميش والفقر والعنف عبر الأجيال.
بين الهدم والبناء
في الدول المستقرة والمتقدمة، يتم التعامل مع المدرسة كعمود أساس في بناء الفرد والمجتمع، وفيها يمنح الطفل فرصة لأن ينمو وليس فقط لأن يتعلم، فهو يتدرب على طرح الأسئلة قبل حفظ الإجابات، وتتم معاملته ككيان مستقل لا كهدف تعبوي وورقة سياسية قادمة.
ففي فنلندا مثلًا، ينظر إلى الطفل في سنواته الأولى ككائن فريد يستحق مسارًا تعليميًّا معتدلًا، تبنى مناهجه على أساس الفروق الفردية، أما في كندا وهولندا والدول الاسكندنافية، فالتعليم مصمم لينمي التفكير النقدي، ومهارات التعاون، والقدرة على بناء الذات داخل مجتمع متعدد، لذلك فالطفل هناك ليس مشروعًا مؤقتًا، بل مشروع حياة يتم التحضير له منذ الطفولة المبكرة.
ويمكننا القول في هذا السياق ومن خلال المقارنة أن الفارق الأكثر وضوحًا ليس في جودة التعليم، بل في الغاية التي يراد تحقيقها من العملية التعليمية، وإذا كان الهدف في الدول المستقرة هو بناء وتأسيس فرد قادر على الفهم، والتحليل، والمشاركة... الخ، فإن الهدف في الدول التي تعيش تحت وطأة الصراعات هو عكس ذلك تمامًا، حيث ينتج التعليم هناك جيلًا هشًّا وحائرًا، فاقدًا للثقة، تائهًا بين مرجعيات متضاربة، أو ناقمًا على مجتمع لم يمنحه ما يجب أن يمنح تلقائيًا.

وفي الختام: يبقى الأطفال هم الضحية الأولى والحلقة الأضعف في مجتمعات تمر بصراعات محتدمة وظروف سياسية واقتصادية غير مستقرة، الأمر الذي ينعكس على حياتهم، ويجعلهم يمرون بظروف أسوأ من تلك التي يعيش في ظلها نظراؤهم في باقي دول العالم، لذا لا بد من إيلاء أقصى الاهتمام بقضايا الطفولة في الدول التي تعاني من الحروب كونها قضية بالغة الحساسية تتعلق بجيل المستقبل وخاصة في الدول العربية وصولًا إلى طفولة سوية ومجتمعات مستقرة.