آخر تحديث :الجمعة-12 ديسمبر 2025-01:17ص

مجلة جرهم


إدارة الأزمات أم الإدارة بها؟ قــراءة تحليلية للواقع اليمني

إدارة الأزمات أم الإدارة بها؟
قــراءة تحليلية للواقع اليمني

الجمعة - 12 ديسمبر 2025 - 01:17 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. رائد بن أحمد العبديل مستشار تطوير مؤسيسي وتدريب إداري - اليمن


المقدمة:
تشير نظرية تأثير الفراشة للعالم الرياضي إدوارد لوينز صاحب نظرية الفوضى Chaos Theory الذي يقول : "ضرب جناحي فراشة في الصين قد يسبب إعصارًا في تكساس" إلى أن تغيرًا طفيفًا جدًا في نظام معقد يمكن أن يؤدي إلى نتائج هائلة وغير متوقعة على المدى البعيد. وهذا جليًا نلحظه في موجهات الأزمات في الواقع اليمني.
فالمتفكر في الحالة اليمنية في ظل التحولات العنيفة التي عصفت باليمن منذ أكثر من عقد، يجد أن الأزمات هي الإطار العام الذي تتحرك داخله معظم مؤسسات الدولة. وكانت تلك الأزمات أسبابًا تراكمية لجمود الفعل من المؤسسات التي تدير الوضع، حتى أنها لم تعد تلك الأزمات حالة استثنائية، بل تحولت إلى واقع دائم، تفرضه بيئة هشة سياسيًا، ممزقة مؤسسيًا، ومثقلة بالتدخلات الإقليمية والدولية. ووفق هذا الوضع ينبري إلى تفكيرنا تساؤل جوهري وهو: هل المؤسسات اليمنية تُدير الأزمات؟ أم أنها تُــدار بها؟ بهذا المقال نساهم في العمل على تحليل سلوك المؤسسات اليمنية وبالتالي القيادة التي على رأسها وتوضيح موقفها بين خيارين وهما: إدارة الأزمة كمحاولة للنجاة، أو "الإدارة بالأزمة" كأداة للبقاء والسيطرة.
حين تتحول الأزمة إلى بنية حاكمة
يُعرّف علماء الإدارة العامة الأزمة بأنها "لحظة تهديد مفاجـئة، تُـربك النظام وتدفعه إلى اتخاذ قرارات عاجلة تحت ضغط الوقت والمجهول" (Fink, 1986). فالأزمة حالة عصيبة تمر بها المؤسسات بسبب تغيرات قد تكون مفاجئة أو تراكمية ولكنها تكون مصدر إزعاج أو تهديد للمؤسسة لأن تركها دون حل يؤدي إلى نتائج قد تكون كارثية.
فــي اليمــن، لم تعد الأزمة ظـــرفــًا طــارئًا، بل أصبحت جزءًا من نظام الحُكم نفسه غالبًا.. بل وهناك إدارة تعايشت مع الأزمة، واستثمرت فيها، بل وأعادت إنتاجها، أحيانًا عن قصد لغرض تحقيق عنصر البقاء والاستمرارية أو تحقيق أجندات ومصالح غير وطنية.
في نسختها بعد 2015 ، تعاملت وتتعامل بعض المؤسسات اليمنية مع الأزمة -وخاصة الانقلاب الحوثي- لا بوصفها وضعًا يجب احتــواؤه، بل كحالة دائمة تُســوغ استمــرار الفوضــــى وتقنيـــن الغيـــاب, هذا ما يبدو لأي ملاحظ للوضع العام ولحالة التفاعل المؤسساتي تجاه الأزمات التي يواجهها البلد. وهنا تظهر ملامح "الإدارة بالأزمــة"؛ تلك التي لا تبحث عن حلول جذرية، بل تكرس الأزمة كبيئة ملائمة لتثبيت سلطة أو نفوذ، أو لبقاء الوضع على ما هو عليه حتى تتهيأ ظروف أخرى تمكنهم من ذلك.
كيف تنشأ الأزمة؟
تبدو المشكلات الصغيرة تافهة إذا تحركنا نحو إيجاد الحلول المناسبة والجذرية لها، وتصبح كبيرة وتتحول إلى أزمة حين نتغافل عنها أو نتجاهل تطورها الدراماتيكي كما تفسر لنا ذلك نظرية تأثير الفراشة وتلكم هي الأسباب التي انتقلنا منها إلى الأزمات المتكررة والكبيرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر:
الحدث "الصغير" النتيجة "الكارثية"
تأخير صرف رواتب في 2015 في بعض الوزارات نزوح الكفاءات | ضعف مؤسسي شديد
انسحاب البنك المركزي من صنعاء دون خطة أزمة سيولة | تضخم
توقف تصدير النفط جزئيًا تآكل الاحتياطي النقدي | انهيار الريال
تهميش المجالس المحلية تفكك إداري | فوضى في الخدمات
تجاهل القطاع الصحي في 2016 تفشي الكوليرا ثم COVID-19 بدون جاهزية

فكل خطوة بسيطة لم يتم احتوائها تحولت إلى كرة ثلج متدحرجة صنعت أزمة مركبة: سياسية، وإنسانية، واقتصادية، وأمنية.
إدارة الأزمات … الغائب الأكبر في مؤسسات الدولة
نلاحظ جليًا حتى لحظة كتابة هذا المقال، لا توجد في اليمن بشكل فعلي:
مؤسسة وطنية مستقلة لإدارة الأزمات، أو وحدة إنذار مبكر فعالة في أي قطاع، ولا حتى استراتيجية متكاملة للاستجابة للكوارث الطبيعية أو الإنسانية أو الأمنية، ما يعني أن الاستجابات للأحداث تأتي مرتجلة، عشوائية، وتخضع لمراكز نفوذ محلية متضاربة وهذا على كل السياقات وبكل القطاعات فمثلًا: في أزمــة كــورونـا، لم تُصـدر خطةٌ وطنيةٌ واحدةٌ تجمــع بين كافة المناطق اليمنية (تلك التي تحكمها الشرعية أو تلك التي مُسيطر عليها الحوثيون)، ولم تُوحّــد بروتوكولات الإغلاق أو الوقاية إلا من بعض التنسيق الذي أدارته منظمات دولية لاحقًا بشكل جزئي في بعض مناطق الشرعية. أما في أزمة الكوليرا (2017–2018)، كانت الاستجابة مدفوعة بمنظمات دولية بحتة، دون قدرة مؤسسية محلية على التنسيق أو حتى التوثيق.
هذان نموذجان فقط يؤكدان على أن مؤسسات الدولة لم تكن تملك أدوات لإدارة الأزمة لا على مستوى التخطيط، ولا على مستوى التواصل، ولا حتى على مستوى التقييم اللاحق، وقس على ذلك.
الإدارة بالأزمة رُكــن البقاء في المؤسسات المنقسمة
وفي الحالة اليمنية نجد بوضوح ظهور ملامح الإدارة بالأزمة في سلوك بعض المؤسسات، بقصد أو بغير قصد، حينما تتسلسل الفراشات إلى الوسط مثلًا:
تُستخدم الأزمات الأمنية كذريعة لتعليق الرواتب.
تُبقي السلطات المحلية على حالة النزاع لتمرير مصالح سياسية أو صراعات حزبية.
تم تفخيخ ملفات خدمية مثل الكهرباء، والنفط، والموانئ للمساومة بين الأطراف.
تستمر عملية العبث بالملف الأمني والتنقلات بين المدن وخاصة من طرف الانقلاب الذي يرفض دائمًا تفعيل هذا الملف حتى إذا ما حان الاحتياج إليه أعلن موافقته الأمر الذي يستجيب له مباشرة الطرف الحكومي مع بعض الإجراءات الضرورية لأي استغلال عبثي.
وبخصوص ملف العملة والأزمة المصرفية والمالية، تقوم بعض الكيانات باستخدام الأزمة كأداة لتثبيت السيطرة على الأرض والجمهور ولتبرير الفشل
الإداري المستمر، بل ولكسب التأييد السياسي الداخلي أو الدعم الدولي تحت لافتات كثيرة، ولا يخفى أن بعض القوى –وخاصة الدولية منها– تُبقي على الأزمة كحالة مطلوبة لضمان استغلالها في استمرار الصراع وتهديد دول الجوار وتحقيق مصالح أخرى.
أمثلة واقعية
الحالة التحليل
الكوليرا (2017) في غياب واضح للجهة المختصة تم الإعلان عن أرقام كارثية، دون خطة وطنية، وكانت المنظمات الدولية هي الممسكة بزمام الأمور.
انهيار العملة تُستخدم الأزمة المالية كمادة ضغط سياسي، بينما تغيب المعالجات المؤسسية.
الفيضانات في عدن الاستجابة كانت فردية ومجتمعية، دون خطط بلدية مفعلة، وغابت فرق الطوارئ.
كورونا (2020) لم تُبنَ أي قدرة صحية وطنية دائمة، رغم حجم التهديد والدعم الدولي المقدم .

ذكرنا هنا بعض الأمثلة فقط لتوضيح المشهد عن أداء المؤسسات اليمنية خلال الأزمات وهل المطلوب منها تقديم خدمات أفضل وفق معايير العمل المؤسسي المتميز أو أنها فقط تشهد على الأزمة دون العمل على تقديم الحلول اللازمة لها، وهنا تكمن الشعرة الفاصلة بين إدارة الأزمة والإدارة بها.
هل يمكن الخروج من هذه الحلقة؟
عودة إلى نظرية تأثير الفراشة، فإنه يمكننا إسقاطها على إيجاد الحلول في الواقع اليمني، من خلال تكوين أثر فراشة عكسية، وهي أن تبدأ المؤسسات بإجراءات صغيرة مدروسة في مكانها المحدد (في البيئة المضطربة)، ثم تتابع حلقاته عبر الزمن لتصنع تحولًا هيكليًا تدريجيًا تجاه الأزمات، فعلى سبيل المثال:
إعلان تثبيت سعر صرف تفضيلي موحد للمساعدات والتحويلات عبر البنك المركزي عدن بالإضافة إلى اعتماد أدوات دفع إلكترونية بسيطة، إجراء بسيط قد يؤدي إلى التالي:
تقليل الفجوة بين سعري صرف العملة.
استعادة الثقة بالعملة المحلية.
تفعيل الدورة النقدية رسميًا.
تشجيع تحويلات المغتربين.
وفي كل الأحوال لا يوجد مستمر إلى الأبد، فهذا سنة الله تعالى في التداول، ولا بد من وجود حلول قابلة للتطبيق لأزمة الوطن الكبير، وبالتأكيد هناك إمكانية للخروج حالة الإدارة بالأزمة ولكنه يتطلب إرادة سياسية تتخلى عن المكاسب السريعة، وتعيد تعريف المصلحة العامة خارج حسابات النفوذ والمصالح الذاتية أو الوجاهية. ولعلنا نرى أن الحلول تبدأ بـ:
أن تكون الحكومة اليمنية مؤمنة بالتغير التدريجي التراكمي أقوى من التغيرات الكبرى بعيدة أو متأخرة التحقق.
إنشاء هيئة وطنية مستقلة لإدارة الأزمات والكوارث تحت رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة.
تفعيل أنظمة الإنذار المبكر في القطاعات الحساسة كالمياه والصحة والكهرباء والتعليم والأمن.
إشراك منظمات المجتمع المدني المحلية في تصميم الاستجابات الإنسانية والإشراف عليها من الجهة المختصة.
توحيد المنصات الإعلامية وقت الكوارث لطمأنة الناس بدل تفزيعهم.
أن تنتزع الحكومة نوعًا من فرض نفسها لتنفذ الحلول وبشكل مرن غير بيروقراطي.
طالما توافرت الإرادة السياسية ستتوفر عملية توجيه البوصلة من الداعم الخارجي نحو الحل المطلوب وليس نحو تضاربات الفرقاء والمتحالفين، ويمكننا القول أن التوحد نحو رؤية وطنية واحدة وفق نموذج عملي سواء سابق أو يتم اقتراحه من الشركاء الحاليين يمكننا من تجاوز الأزمات بأنواعها والتوحد نحو إعادة بناء الوطن وبناء مؤسساته.
التوصيات
نوصي في نهاية هذا المقال بالعمل بروح وطنية للوقاية من الأزمات وإدارتها بالشكل المطلوب بالتالي:
فصل العمل الإغاثي الإنساني عن الأجندات السياسية وإيقاع العقوبات بالمعرقلين أو المستغلين لهذا الملف.
تأسيس قاعدة بيانات وطنية لكل أزمة ومآلاتها وإدارتها.
تدريب كوادر محلية في مجال إدارة الأزمات.
إعادة صياغة العلاقة بين المنظمات الدولية والمؤسسات المحلية بإشراف وطني من مؤسسات الدولة المعترف بها.
محاسبة أي طرف يستخدم الأزمة كأداة سياسية أو اقتصادية أو يتسبب بالأزمة واستطالتها وهو أمر معقد لكنه بحاجة إلى تلازم الإرادة والإدارة لتحقيقه.
تفعيل دور المؤسسات وتمكينها من أداء عملها وفق رؤية وطنية ومتابعة وإشراف الأجهزة الوطنية للدولة.

الخاتمة
استعادة مؤسسات الدولة المختطفة لدى الانقلاب وعودة مؤسسات الدولة إلى الداخل لإدارة الأوضاع وتفعيل موارد الدولة نحو إعادة الأمن والأمان وإعادة الاستقرار في اليمن أمر في غاية الأهمية، فاليمن لا يحتاج فقط إلى دعم إنساني أو دعم مادي، بل يحتاج إلى نموذج مؤسسي يُخرج الأزمات من كونها بيئة للهيمنة، ويعيدها إلى مكانها الطبيعي: تحديات يجب مواجهتها بحكمة واحتراف. والعمل معًا في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة اليمنية يدًا بيد، يعيدنا إلى دفة البناء، وهذا يحتاج إلى صناعة قيادة قوية في الميدان تمارس أعمالها بوضوح وتتحمل أعباء قيادة الدولة، هنا نستطيع تكوين رؤية واضحة لإدارة الأزمة.

الخلاصة في زمن تتغذى فيه بعض النخب من فوضى الأزمات، تظل القدرة على إدارة الأزمة بصدق هي أول خطوة نحو استعادة الدولة.


مراجع مختارة
Fink, S. (1986). Crisis Management: Planning for the Inevitable.
Mitroff, I. I. (2005). Why Some Companies Emerge Stronger and Better from a Crisis.
Boin, A., & Hart, P. T. (2007). The Politics of Crisis Management.
تقارير الأمم المتحدة حول الأزمة اليمنية (OCHA, WHO, UNDP 2017–2023)
برنامج الغذاء العالمي WFP Yemen Situational Reports