آخر تحديث :الأربعاء-17 ديسمبر 2025-09:27ص

مجلة جرهم


الرجال من المريخ و النساء من الزهرة

الرجال من المريخ و النساء من الزهرة

الأربعاء - 17 ديسمبر 2025 - 09:27 ص بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ سوزان حامد ــ كاتبة وباحثة مصرية


منذ بدايات التفكير الفلسفي، ظل الاختلاف بين الذكر والأنثى موضوعًا متجددًا لا ينفك يثير أسئلة تتجاوز البيولوجيا لتطال الاجتماع والثقافة والمعرفة، ولا يتعلق الأمر بمجرد تباين جسدي أو وظيفي، بل بمنظومتين وجوديتين تتقاطعان وتتصادمان وتتحاوران عبر التاريخ.
فالذكر والأنثى ليسا مجرد معطيين طبيعيين، بل بنيتان تتقاطع فيهما طبقات من الخبرة النفسية، والتنشئة الاجتماعية، والتصورات الثقافية.. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم العلاقة بين الرجل والمرأة إلا بوصفها عقدًا حضاريًا يتطلب فهمًا دقيقًا للفروق، لا تسطيحًا لها تحت شعارات التماثل أو التناقض.
ينطلق هذا المقال من استقراء معرفي لنماذج التواصل والتفاعل بين الجنسين، مستلهمًا أطروحات كتاب "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة" لجون غراي، وهو أحد الكتب المهمة في مجال العلاقات الإنسانية التي تدعو لنكون أكثر تقبلًا وتفهمًا وتسامحًا مع الطرف الآخر من خلال الاستبصار بالفروق بين الجنسين في التواصل وردود الأفعال وطرق حل المشكلات والتعبير عنها، ومواجهة الضغوط الحياتية المختلفة.
إن تحسين العلاقة بين الزوجين ينبع من فهم عميق لاختلافاتنا مما يؤدي إلى إعلاء تقدير الذات، والكرامة الشخصية، والثقة المتبادلة، والمسؤولية، والمودة، والتعاون، والتسامح، وإعلاء قيمة الأسرة في المجتمع، ويُظهر هذا الكتاب مدى اختلاف الرجال والنساء في كافة قطاعات حياتهم، ويكشف عن استراتيجيات لتخفيف الضغوط النفسية في العلاقات، وتقليل مشاعر الإحباط والقلق وخيبة الأمل في محاولة لخلق السعادة والمودة بين الطرفين والبعد عن الصراعات.
فنحن مختلفون في تصرفاتنا ومواجهاتنا للضغوط والمشكلات الحياتية، وليس من المؤكد فقط أن يتواصل الرجال والنساء بطرق مختلفة، بل إنهم كذلك يفكرون ويشعرون ويستوعبون، ويُكوّنون ردود الأفعال والسلوكيات، ويحبون ويستجيبون ويقدمون الشكر أو الذم بطرق مختلفة.
بنيتان نفسيتان
إذا أردنا فهم الاختلاف الجوهري بين المرأة والرجل، فعلينا تجاوز الصورة الكاريكاتورية التي تفصل بين عوالمهما، والاقتراب من تمثلات أعمق, فالرجل يميل إلى الإنجاز والحسم والفاعلية، بينما تميل المرأة إلى الاحتواء والتواصل والانفعالية التعبيرية، وهذه الثنائية ليست حكمًا قيميًّا، بل تمظهرًا لاختلاف آليات التفاعل مع الوجود.
يرى الرجل ذاته من خلال قدرته على التأثير والإنجاز، فيما ترى المرأة ذاتها من خلال نوعية علاقاتها ومدى التقدير العاطفي الذي تحصده، لذا فإن محاولة تطبيع هذه الفوارق تحت وهم "التساوي المطلق" يفضي إلى صراعات وإحباطات متكررة، حيث يقرأ كل طرف الآخر من خلال مرجعيته الذاتية، فيُساء الفهم ويُظلم القصد.
اللغة كآلية اختلافية
من أعمق ملامح الفارق بين الجنسين، نجد اللغة؛ لا بمعناها الصوتي فحسب، بل من حيث الغاية والتأويل، فالرجال يتحدثون ليقدموا حلولًا عند الحديث ولا يعبرون عن مشاعرهم كثيرًا، بينما المرأة تتحدث غالبًا أو أحيانًا للتخفيف والانفتاح الشعوري، وهذا الفارق كثيرًا ما يؤدي إلى سوء فهم قاتل في العلاقات اليومية.
وحين تبوح المرأة بما يؤلمها، فإنها لا تنتظر حلولًا عملية بقدر ما تنتظر إنصاتًا حقيقيًا وتعاطفًا غير مشروط،، أما الرجل؛ فعندما يلوذ بالصمت أو ينشغل بأمرٍ ما، فهو غالبًا ما يلجأ إلى آلية تأمل داخلية لاستعادة توازنه، وليس تهربًا كما يُفسّر في الغالب، لذلك فإن تباين هاتين "اللغتين" يولد فجوة إدراكية ما لم يتم تداركها بوعي.
سحر الأشياء الصغيرة
يظن الرجل أنه يحرز نقاطًا كبيرة مع المرأة عندما يقدم لها شيئًا عظيمًا مثل شراء هدايا كبيرة أو غالية جدًا أو تقديم شيء ضخم لها، ولكن مع انشغاله عنها وتركيز وقته وطاقته وانتباهه في سبيل تقديم ذلك الشيء، لكن هذه المعادلة غير صحيحة لأن النساء يقمن بتدوين النتائج بطريقة مختلفة.
قد تُحدث الأشياء الصغيرة تأثيرًا كبيرًا مع الاهتمام والقرب، ذلك أن المرأة عندما تدون النتيجة، مهما صغرت أو كبرت حجم الخدمة أو الهدية، فهي تساوي عندها نقطة واحدة، في حين يظن الرجل أنه يسجل بذلك نقاطًا كثيرة في رصيد علاقته بها، وقد تنكر منه كل ذلك بشكل مفاجئ في لحظة خصام.
لا يدرك الرجل أن الشيء القليل في معاونتها عند الحاجة أو في التوقيت المناسب يعد عند المرأة بمثابة الشيء الكبير في الوقت غير المناسب، كما أن تعبيرات الامتنان والمشاعر الصادقة والغزيرة تشعرها بأنها محبوبة، وتشعرها بالأمان والاطمئنان في ظل وجودك معها، وليس تعبيرًا واحدًا أو اثنين إنما كثير من العبارات والكلمات الجميلة لتعبئة رصيد أو خزان الحب لديها, لكي تشعر بالتقبل والثقة والإعجاب والتشجيع والاستجابة.
إن السلوكيات العاطفية للرجل والمرأة تبنى ضمن سياقات قيمية مختلفة، فالرجل يُعرِّف ذاته بالكفاءة وتحقيق النتائج، بينما تُعرّف المرأة ذاتها من خلال علاقتها بالآخرين وقدرتها على الرعاية.
هاتان المعادلتان تخلقان توقعات متضادة؛ هو ينتظر الاعتراف بإنجازه، وهي تنتظر حضورًا عاطفيًا دائمًا.. كما أن المرأة تسجل الحب عبر التفاصيل: رسالة، نظرة، هدية رمزية، بينما يظن الرجل أن الجهود الكبيرة -كالسفر أو الشراء- هي الأكثر قيمة، وهنا نجد الاختلاف في ترميز العاطفة والذي قد يؤدي إلى فجوة في تقدير العطاء المتبادل، وقد تتحول هذه الفجوة إلى استياء مزمن إذا لم يُفهم اختلاف المقاييس.
طرق التكيف والانسجام
تعد طريقة التعايش مع الضغوط أحد أكثر الفروق بين الرجال والنساء فالرجل يكون أكثر تركيزًا ويدخل كهفه الخاص ليفكر في مشكلته وقد ينشغل في قراءة الأخبار أو ممارسة لعبة، وقد ينخرط في شيء أكثر تحديًا كالتنافس في مسابقة أو تسلق الجبال أو مشاهدة المباريات.. بينما المرأة عندما تتعرض للضغوط فإنها تبحث عن شخص تثق به تتحدث إليه عن مشكلاتها لتشعر بالتحسن.
وهكذا تشعر المرأة بالرضا عندما يصبح لديها صديقات محبات يشاطرنها مشاعرها ويتعاطفن معها, بينما يشعر الرجل بالرضا عندما يتمكن من حل مشكلته بنفسه.
ولكن حين يُساء تفسير هذا السلوك -فانسحاب الرجل يبدو جفاءً، وكلام المرأة يبدو نقًّا- تزداد الفجوة وتتعمق، والحل لا يكمن في تغيير الطبع، بل في تفهم الطبيعة.

إن التقدير يبدأ من الاعتراف بحق الطرف الآخر في امتلاك طريقته في التعامل مع القلق وتجاوز الضغوط والمشاكل وتقدير ذلك -إن لم يكن الإسهام فيه- دون إصدار أحكام.

لغة مزدوجة
من الأمور المفصلية التي يتناولها "غراي" في كتابه "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة- وهو ما ناقشنا من خلال أطروحاته معظم فقرات هذا الموضوع، أن الرجل يمنح الحب عبر الإنجاز والدعم غير المنطوق، بينما المرأة تمنحه عبر التواصل اللفظي والعاطفي، فكل منهما يمنح ما يتمنى أن يتلقاه، فيفشل أحيانًا في تلبية ما يحتاجه الآخر فعليًا.
فالمرأة تتوق إلى التفاصيل اليومية، بينما الرجل يتطلع إلى "اللفتات الكبرى"، وحين لا يرى تقديرًا لهذه اللفتات، يبدأ بمنح "نقاط عقابية" شعورية عبر الانسحاب أو التجاهل.
بالمقابل، حين تشعر المرأة بأن عطاءها لا يُقابل، تبدأ بانتقاد الطرف الآخر وإنكار ما يقدمه، مما يدخل العلاقة في دوامة من عدم الرضا المتبادل.
لذلك فإن العلاقات الصحية تتطلب "تفريغًا" دوريًا لهذا الاستياء، سواء بالحوار، أو بالرسائل العاطفية، أو بإعادة توزيع المسؤوليات، كما يجب أن يتوقف كل طرف عن استخدام "النقاط العقابية" لتسجيل أخطاء الآخر.
أخيرًا
ليست العلاقة بين الرجل والمرأة خصومة حضارية ولا تماهٍ اصطناعي، بل جدلية إنسانية تبنى على الاختلاف بوصفه طاقة إبداع، لا معركة هيمنة، وما لم نرتقِ إلى وعيٍ يدرك هذا التباين بوصفه بنية تكاملية، سنبقى ندور في فلك سوء الفهم، حتى ونحن نحسن النية.
إن الوعي بالاختلاف لا يكفي، بل ينبغي ترجمته إلى سلوكيات: الإنصات بصدق، التعبير بلطف، التقدير المتبادل، واحترام المساحات النفسية. تلك هي شروط العلاقة الناضجة، التي لا تهدف إلى انتصار طرف، بل إلى ولادة شراكة متوازنة تسهم في بناء إنسان جديد، وعائلة متصالحة، ومجتمع أكثر تفهمًا.