آخر تحديث :السبت-20 ديسمبر 2025-10:52م

مجلة جرهم


معالم الطريق .. سورة اقرأ

معالم الطريق .. سورة اقرأ

السبت - 20 ديسمبر 2025 - 10:52 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ محمد أحمد العامري


سورة اقرأ .. هو الاسم الذي اشتهرت به سورة العلق، وتـعَدُّد المسميات لأي سورة قرآنية دليل على تعدد المواضيع التي تتناولها، وهذه السورة عمومًا والآيات الأولى منها تحديدًا تتناول أهم تلك المواضيع، كيف لا وهو أول خطاب إلهي للنبي عليه الصلاة والسلام تجسد به أول ارتباط بين السماء والأرض بعد انقطاع الرسل والرسالات.. والخطاب ذلك هو منهج يرسم به عليه الصلاة والسلام -المكلف بالنهوض بأمة مطلوب منها أن تقود البشرية- كيفية صناعة الإنسان المؤمن، والمجتمع الواعي والأمة القوية، والمخاطَب بهذه السورة والتوجيهات الربانية هو المسلم إلى يوم القيامة في ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خوطب بها في ظروف وبيئة معينة؛ هذه البيئة كانت بلغت من الانحراف عن نهج إبراهيم وإسماعيل إلى مستويات الجاهلية في تصوراتها ومعتقداتها وسلوكها، وإلى درجة الانصراف عن عبادة الله الخالق المعبود إلى عبادة الصنم والحجر من دون الله، ليدور الزمان وتتكرر هذه الجاهلية وتعود بعد أكثر من ألف وأربع مئة سنة بأصنام جديدة، فتعبد القبور والأضرحة وتُقدّس الخرافات، ويُعبد الأفراد والجماعات في صنمية وجاهلية مقيتة أشد من جاهلية ما قبل ذلك الخطاب.

أول الطريق
لقد جاء هذا الخطاب والتوجيه الإلهي ليثبت -حتى الآن- أنه كلام رب الأرباب والصالح لكل زمان ومكان، وهو توجيه دائم للمسلم الحالي الذي يعيش بنفس الظروف التي كان عليها وضع مجتمع النبي عليه الصلاة والسلام بكل صور وسلوكيات الجهل حينها، وكيف يمكن الانتقال بهذا المجتمع الموحش بأفراده وما يحمله من الصور المعقدة والعقائد الفاسدة والجهل المركب، بل والعدائية المفرطة ضد كل من يقف أمامه؛ كيف يمكن الانتقال به من تلك الظلمات إلى النور، ومن التبعية الى القيادة، ومن العدم الى الوجود، فكان أول الطريق في هذا الأمر الشاق والصعب، والذي تحدده وترسمه هذه السورة، هو السير إلى الله في هذه الحياة بالقراءة والعلم والوعي .
وهذا الوعي وهذا العلم يكون بالإبصار بعين الوحي لا بغيره، وميزان الشرع لا سواه، لأن الخالق لهذا الكون والمقدر لهذه الأقدار، والعالم بها هو نفسه جل في علاه، من يرشدك بالعلم والبصيرة والوحي في كيفية التعامل معها .
ولذلك جاءت البداية -بعد فترة من الرسل- بهذا التوجيه ﴿اقْرَأْ ﴾ وبدون قراءة لا علم ... وبدون معية الله لا نفع من هذا العلم ولا قوة ولا نماء ولا تمكين .
إذن لا قوة بلغة العصر إلا بالعلم، ولا علم ولا قوة إلا بالاعتراف أولًا وقبل كل شيء بضعفنا وافتقارنا إلى الله، وأننا بدون معية الله ضعفاء، لا حول لنا ولا قوة إلا بالخالق، وبناء عليه لن نحسن التعامل مع الدنيا بكل ما فيها من تعقيدات ومخلوقات وجاهلية إلا بالعلم وبمعية الله، ولذلك قال لنا في أقصر وأعمق توجيه عن الأولى وهي العلم ﴿اقْرَأْ ﴾ وعن الثانية وهي المعية ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق﴾ ، وعن الثالثة وهي حقيقة خلقنا وماهيتنا وضعفنا ليؤكدها بقوله { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ مِن عَلَقٍ }..
والعلم هو بداية كل قوة، وطريق كل صلاح على مستوى الفرد والأمة، ولذلك من يراد منه أن يكون معلمًا للبشرية ومنقذًا ومرشدًا لها تكون البداية معه أولًا بالعلم، فكانت ﴿اقْرَأْ ﴾ أول التوجيهات له ولأمته، مما يعني أن سلوك غير هذا الطريق بالنسبة له كنبي مرسل، وبالنسبة لأمته من بعده، هو ضياع وتوهان.
ولن يكون التحول الحضاري والقيمي لأي أمة - مهما كان ماضيها مظلمًا، ومهما كانت تعقيدات الحياة حولها- إلا بالعلم، ورأس هذا العلم وذروة سنامه علم الإيمان علم الوحي، العلم بالله والتعرف عليه، يجب الارتواء منه قدر الاستطاعة، وتطعيمه للأجيال قبل أي تطعيمات، إذا أردنا أمة قوية رائدة كما فعل صلى الله عليه وسلم حينما قاد الأمة، فلا خير في أمة تسلك طريقًا غير طريق قائدها ومعلمها الأول، وهدىً غير هداه، وسبيلًا غير سنته ونهجه..

أصل التكريم
وانظر هنا: كيف يخاطب إنسانًا لا يجيد القراءة والكتابة بــ ﴿اقْرَأْ ﴾ وهو جل وعلا يعلم أنه صلى الله عليه وسلم لا يجيد القراءة، ولذلك كان جوابه صلى الله عليه وسلم ( ما أنا بقارئ ) يقصد القراءة والكتابة، فكيف يُطلَب منه ذلك؟، هنا لابد لذلك من مقصد وحكمة، وكأن في ذلك دلالة وإشارة إلى أن القراءة والكتابة ليست هي العلم، فكيف يكلف عليه الصلاة والسلام بما لا يطيق، بل هي الوسيلة إلى العلم، مما يعني أن الكثير يجيدون القراءة والكتابة لكنهم ليسوا علماء، وبمعنى آخر: ليس كل قارئ عالم .
وانظر كيف تكررت مُفردة العِلم أكثر من مرة لأهميته وللتأكيد عليه ، بدأها بالقراءة، ثُم جاءت أدوات العلم وهي القلم ثُم جاءت وسيلة التعلم وهي القراءة.
وهذا الطريق وهذا المنهاج ( العلم ) الذي يصنع الوعي اختاره الله لنبيه، واختاره النبي المرسل صلى الله عليه وسلم لصحابته، واختارته الأمة على مر التاريخ ... وهكذا، ويوم أن تمسكوا به سادوا، ويوم أن سلكوا غيره تأخروا إلى ذيل الأمم وذُلُّوا.
مما يعني أن أكبر ميزانية ينبغي أن ترصد في الأسرة والفرد والدولة تكون للعلم .. العلم الذي يبنى عليه كل شيء من العلوم .. وهو لا يُبنى على شيء .
بالعلم هذا سيكرمك الله الأكرم كرمًا يبهرك، كرمًا لا حدود له، وستعي بهذا العلم حقيقة الإنسان، حتى لا تتكبر وتصاب بالغرور والطغيان ﴿خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ ﴾ .
وانظر العلاقة والربط بين العلم وخلق الإنسان، وكيف جمع بينهما ﴿خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ﴾ أصل خلق الإنسان من علقة من دم لو علقت بثوب أحدنا لاستقذرها وهي أصل الإنسان، إذن تكريمه ليس لأصل خلقته، بل بعلمه ووعيه وإدراكه، وهذا ما يفضله عن باقي الخلق ﴿عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾
القلب الذي ينبض وينطلق في الحياة بدون الاستعانة والاستئذان والتعلق والتوكل بالله مخذول، وكذلك المجتمع والأمة والدولة، أول وأجلُّ وأرفع العلوم هو العلم بالله الخالق الموجد، ولذلك تضمنت الآيات الأولى بالسورة إشارات متكررة عن العلم بالله فقال ( ربك - خلق - خلق الإنسان - الأكرم - علم الإنسان )، ومن أجلِّ النعم التي أنعم الله بها على الإنسان وذكرها في أاول السورة ليعلمها ويعلمها ويستوعبها هي: خلق الإنسان + علم الإنسان.
وانظر كيف خص الإنسان بالذكر من بين كل مخلوقاته وهو خالق كل شيء.. وكل خلق بعد الإنسان دون، وكل علم بعد العلم الذي مصدره الوحي دون.

الخلق سر وجوده، والعلم سر تكريمه وقدراته، وبه يعرف ربه ونفسه وكل ما حوله ويفهم حقيقة كل شيء.. والعلم هو سر تميزه عن باقي المخلوقات ولذلك ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَاَ﴾ وجعله خليفة.. فالإنسان يشترك مع باقي المخلوقات في الخلق .. ويتميز ويَفضُل عليهم بالعلم والعقل ﴿عَلَّمَ الإنسان ﴾

من عرف الله بالعلم الشرعي يهون أمامه كل ما سواه من الخلق، ولن نعرف الله حق المعرفة إلا بما عرَّف هو نفسه بنفسه في كتابه.. لقد صنع هذا العلم من الأعراب أمة قوية، حتى أن الحضارات كانت من حولهم في الجزيرة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا وهم غارقون في جهلهم وجاهليتهم... فلما أخذوا بهذا العلم انتشلهم من مستنقع ذلك الجهل إلى سماء العلم، فطغت حضارتهم وتجاوزت كل ما حولهم، ودانت وخضعت لهم كل الحضارات، ولم يكن ذلك إلا بالعلم ، ولذلك قال ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ ليطلق العنان في التفكير في كرم الله الذي كان سببه العلم.

على مرحلتين
ومجمع بين علماء التفسير أن سورة (اقرأ) سورة مكية، وهذا قليل عند علماء التفسير أن يجمعوا على سورة أنها مكية أو مدنية، وهذا يدل على أن بداية صناعة الإنسان وتكوين المجتمعات يكون بالعلم إجماعًا .
والسورة لم تنزل كاملة على النبي صلى الله عليه وسلم بل نزلت على مرحلتين، الأولى هي الخمس الآيات التي تناولت قضية العلم والخلق مستقلة، بها افتتح بيان الرسالة وتجلّى النور لأول مرة على قلبه عليه الصلاة والسلام، بينما كان معتزلًا قومه، متعبدًا متحنثًا في جبل النور هناك في غار حراء، وبعد أن نزل عليه جبريل عاد عليه الصلاة والسلام من الغار مرتجفًا، وقد امتلأ فؤاده رهبة مما رأى، وقال لخديجة رضي الله عنها: "زملوني زملوني". فهدّأت من روعه، وقالت قولتها المشهورة "لن يخزيك الله أبدا ... إلى آخر ما قالت "، ثم أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان رجلًا ذا علم بأخبار الوحي والكتب القديمة، فلما سمع ما حدث، قال : "هذا النَّامُوسُ الذي أَنْزَلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، وإنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا"، مؤكدًا أن ما نزل على محمد ﷺ هو الحق من عند الله.
وهكذا، بدأت رحلة النور بآياتٍ معدودة، لكنها حوت في معانيها مقومات النهضة الإنسانية: الخلق، والعلم، والقلم، والتعليم الرباني. لكن ما إن تنتهي الآيات الخمس الأولى، حتى تبدأ المرحلة الثانية من السورة؛ لتبين ما ستواجهه هذه الدعوة في طريقها إلى هداية الناس من طغيان ومنع وتجبر، ذلك الطغيان الناتج عن الاستغناء الذي سرعان ما يتحول إلى عدوان سلوكي، فالمتكبر لا يكتفي بالإعراض عن العبادة، بل يسعى إلى منع غيره، وهذا هو قمة الطغيان: رفض الحق بعد ظهوره، ومنعه من الوصول إلى غيره، لكن السورة لم تكتف بذلك المشهد بل أكدت على ضرورة مواجهة الطغاة بالثبات وعدم الخضوع: "كلا لا تطعه، واسجد واقترب".



ختامًا
وحتى يعطينا منهجية صناعة الإنسان المسلم؛ كيف تكون، كان من أوائل بل أول ما نزل من القرآن الثلاث السور بالترتيب العلق ثم المدثر ثم المزمل، وذلك لحكمة لا يلتفت إليها الكثير، حيث أن هذه السور الثلاث هي محاور صناعة الإنسان السوي المستقيم الذي هو نواة المجتمع، وهي ثلاثية الصلاح والفلاح بالدنيا والآخرة: العلم ثم الدعوة ثم العبادة .
﴿اقْرَأْ ﴾ وهي البداية بالعلم الذي لا تكون الدعوة إلا به، ثم المدثر وفيها تجلت معالم المرحلة الثانية على الطريق وهي البلاغ والدعوة ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) ﴾ ، وفي ﴿الْمُزَّمِّلُ﴾ تجلت عوامل النجاح والزاد لعبور ذلك الطريق بثبات متمثلة بالإيمان والاستعانة بالله، والعبادة، وقد اختصرت السورة ذلك كله فبدأت بفعل أمر ﴿اقْرَأْ ﴾ العلم، وانتهت بأمرين مهمين أيضًا ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، وهي العبادة التي تقوم على العلم الصحيح الذي مصدره الوحي المنزل .