آخر تحديث :الأربعاء-31 ديسمبر 2025-05:54م

مجلة جرهم


الفضول ســـــــاخراً

الفضول ســـــــاخراً

الأربعاء - 31 ديسمبر 2025 - 05:54 م بتوقيت عدن

- جرهم ــ موسى المقطري ــ باحث وكاتب يمني


كلما ذُكر الشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان (الفضول) تبادر إلى الذهن لونان من الشعر كانا أشد ارتباطًا به، وهما الشعر السياسي أو الوطني والشعر العاطفي، وربما كان السبب كثرة انتاجه الشعري لهذين الغرضين، وانتشار قصائده الوطنية والعاطفية أكثر من بقية الأغراض الأخرى، وساعد غناء عدد منها في زيادة انتشارها ووصولها لعدد أكبر من المتلقين.
الشاعر والسياسي اليمني عبد الله عبد الوهاب نعمان من مواليد عام 1920م في تعز – الحجرية انتقل إلى عدن بعد استشهاد والده على يد الإمام والعزم على اعتقاله، ثم انتقل بعد قيام الثورة إلى صنعاء وتقلد فيها عددًا من المناصب الحكومية حتى توفاه الله في 2 يوليو 1982م في منزله بتعز.(1)
في العام 2007 صدرت الطبعة الأولى من ديوان أشعار عبد الله عبد الوهاب نعمان، الملقب بـ (الفضول)، عن الهيئة العامة للكتاب – صنعاء، كما صدرت طبعة ثانية في العام 2009م وفيها أغلب قصائد الفضول إن لم تكن كلها، وأول مجموعة تضمنها الديوان كانت "قصائد صحيفة الفضول"، وهي مجموعة من القصائد الذي كان ينشرها الشاعر في صحيفته "الفضول"، وهي صحيفة سياسية مستقلة لم ترتبط بأي منظمة سياسية، وهي أول صحيفة ساخرة في اليمن والجزيرة العربية, والثانية على مستوى الوطن العربي بعد (أبو نظارة) المصرية، وكان الأستاذ عبد الله عبد الوهاب نعمان رئيس تحريرها ومحررها" (2)، وصدر عددها الأول في عدن يوم 15ديسمبر1948م ، ثم أغلقها الاحتلال البريطاني نهاية العام 1953م بضغوط من الإمام أحمد .
تصنف "صحيفة الفضول" ضمن "الصحافة الساخرة"(3) ويمكن استشراف ذلك من خلال وصفها لنفسها : "أنها جريدة، مستقلة ذات سيادة مُطلقة، لسان حال الطفارى والزعالى ومخازيق الجيوب، صاحبها: بنت ناس متصاحبش، مديرها: لو قلها دوري دارت، مركزها: ما ترتكزش، رئيس تحريرها: بياع كلام يصدُق ويكذِب حسب الطلب، أهدافها: ملء البطن وتخريب مجلس الأمن، شعارها: انصح صديقك (مرتن) وإذا عصاك (فغشهو)، المراسلات: مع جازع طريق، الاشتراكات: جيز الناس، الإدارة: في السائلة نهارًا، وفي مخزن الشوكي ليلًا "(4).
كانت أغلب القصائد الساخرة المنشورة بأسماء رمزية لأسباب تخص طبيعة المرحلة وظروف النشر، والقصائد المنشورة فيها تحمل صفة "الأدب الساخر" تبعًا لطبيعة الصحيفة، ومع أنه لم تنشر كل القصائد الساخرة في الديوان الآنف الذكر، إلا أن نشر بعضها فتح الباب أمام البحث عن هذا الجانب من شعر الفضول، وستكون الصحيفة هي مصدر القصائد التي سأتناولها هنا.
قصيدة الانتخابات (5)
كما ورد: "يعد شاعر الفضول من أكابر المهتمين بالانتخابات المدنية المقبلة، وهو عدني ولكنه ممن تنطبق عليهم شروط الحرمان من هذه الانتخابات وعدم دخولها!، وقد رأى في منامه أن الانتخابات على أشدها، فذهب ليعطي صوته ناسيًا أنه لا يملك إلا نصف ديمة في جبل العيدروس، ونسي أنه فقير ابن فقير، يقشط الفقر من جلده بالسكاكين، وجائع جائع، يفكر في بيع نصيبه من الطريق إن كان له فيها نصيب!، وقد وقع له ما لم تذقه رقبة من الخبّاط، وما لم يطعمه شقّ من الزبّاط، ولما نفض مشافره من تراب المخباط.. قال صلوا على باهي الجمال :
نخبوا مهجتي وقلبي لمّا
كردوني من ساحة الانتــخابِ
ساح دمعي على الخدود كما لو
ساح سمن الجبال بين الكبابِ
عش عزيزًا أو مت وأنت (خميدن)
تحت دهف القفا ودكم الــرقابِ
رحت (متكومنن) سأعطش جمرًا
أزبط القاع بطرة في ذهـــــابي
راكـــــــــــزًا نخرتي أجعلل عيني
شامخ الرأس عاصرًا أشنابــي
فإذا بي في الانتخاب فرنكن
طاحس طــــــاح بنكه.. فإذا بي

إلى أن قال
زعمـــــــــــــوا أننا خياب فلا نصـلح للانتخاب.. آه يا خـــــرابي.. (6).

بقدر ما تمثل هذه القصيدة مسلكًا لإمتاع القارئ وإضحاكه فإنها تمثل في الوقت ذاته موقفًا سياسيًا مرتبطًا بالأحداث في عدن, حيث كانت انتخابات المجلس التشريعي لمستعمرة عدن وما يتعلق بها هي حديث الشارع، وفُرضت قيود على حق الاقتراع مرتبطة بالسن والجنس والملكية والإقامة، وهو ما حرم النسبة الأكبر من حق المشاركة فكانت القصيدة التي تخيل فيها الشاعر نفسه ذاهبًا ثم يتم منعه، والقصيدة تعبير فكاهي ساخر لحال القطاع الأكبر من سكان مدينة عدن وقتها.

قصيدة "طيطو"
لهذه القصيدة قصة مفادها تعرض الشاعر لاعتداء بعد مغرب أحد الأيام في عدن، كانت نتيجته جرح في مقدمة راسه أُسعف على إثره للمستشفى، وبرغم الاعتقاد أنها كانت مدبرة لغرض ثنيه عن نشاطه السياسي، لكنها حادثة قد تبدو عادية لغيره، فأراد الشاعر أن يستفيد منها ويحولها إلى مادة لقصيدته الساخرة التي سماها "طيطو" ليتناسب الاسم مع قافية القصيدة (الطاء المضمومة) وليرسل عبرها رسائله السياسية :
أين (البُليس) فرأسي اليوم مخبــوطُ
مدمحل خاشه بالشاش مـــــربوطُ
ياغارة الله ما للآثمين بنا
من غاية ؟ مايرى فينا الـــزباليطُ
آسفت شعب بني شمسان من عدن
فكلهم خــــــــــــده بالكف محطوطُ
يبكي (الفضول) ويبكي جرح جبهته
وكل خــــــــــــــدٍ لهم بالدمع منقوطُ
وكلها خبطة صغرى بدت عجبًا
في حـاجب العين .. زانتها البلاطيطُ
عمـــــــــــائمٌ وطرابيش تطوف بنا
والكوفيات أتتنا .. والبرانيــــــــطُ
وزارنـــــــــا كل طفران وذي سعة
وشـــــــرفونا التعابا والمباسيـــــــــــطُ
وآنستنا طوابير العجائز مــــــــــــن
أدنى القطيع إلى أقصى الخسا (فيطُ)
والحُول والعُور والعُميان تندبنــــــا
وكلهم قلبه بالقهـــــــــــــر مشطوطُ
يـبكي الزميل الذي لم يكفِ جبهتــه
دَكم الجـــــدار فوفته المخابيطُ "(7).
قد يبدو للوهلة الأولى أن القصيدة تتحدث عن الشاعر الذي تلقى ضربة في مقدمة رأسه في أحد ليالي عدن، لكن الحقيقة هي غير ذلك (وهذه هي من صفات الأدب الساخر) فكل ما ورد من مصطلحات استخدمها الشاعر مجازيًا لتؤدي معنى ومرمى آخر غير ما يظهر للقارئ لأول وهلة، فالمصاب هنا هو اليمني حيثما كان في شمال الوطن الموبوء بالإمامة أو في جنوبه المقهور بالاستعمار، والجرح الذي سالت منه الدماء هو جرح على جسد اليمني الذي يتفرج عليه العالم مقهورًا، وفي الصورة الأخرى يتشارك اليمنيون الألم وأكفهم على خدودهم، وهذه صورة للعجز عن التحرك ودعوة لنبذ عادة "التعاطف السلبي" وهذه رسائل سياسية مغلفة بالفكاهة.

قصيدة رو .. رو
في العدد التالي من "الفضول" نشر الشاعر قصيدة مكملة للسابقة يقول مقدمًا الابيات :
"انهالت علينا كثير من التعازي على جبهتنا من جميع القراء وفيما يلي بعض أبيات بعثها إلينا زميلنا "مش في الصحافة" زميلنا في "الشعافة" عبده سعيد الصوفي كبير مشوهي الشيخ عثمان.... وهي كما يلي :
ظلموك إذ خبطوك يازنعيـــــــرُ
ظفروك يا صعلوك حين تهورُ
واستقبلوك بما لقيت تحيةً
تركتك فوق الرصدتين تدورُ
أين العراطيط الذين نحبهم
هل أسعفوك وأنت ثَمَّ تخـــورُ
وختام هـــــذا فاستمع لنصيحتي
وضعِ اللجام كأنك الحمريــرُ

وقد اهتزت معاطفنا لهذا المدح، وارتعشت مشافرنا بالقصيدة الآتية:
أحسنت فيما قلت ياشعــــــــــرورُ
يأيها العلامـــــــــــــــــة البعرورُ
فكأن لقفك في التبقبقِ يا فتى
جمنات قشــــــــــــرٍ بالقهاوى تفورُ
كيف السبيل إلى السكــوت وإنني
مــــــــرح وإهمال الفضول عسيرُ
كم نكتة أتت الفضــول بها .. لـها
ضحك (الطفير) وكعكع (المبطيرُ)
أيجوز أن لنا الفكاهة مبــــــــــــدأ
ولنا سرير الاستبال مصيـــــرُ
سقيًا لجبهتنا التي في سوحها
أمست مقصات الطبيب تــدورُ
قد ينفع المخباط صاحب خبطة
خبثت ففيها الفقش والتعويــــرُ
(يه ياه) أي "هيهات" كم صفارة
قد أُطلقت من أجلنا ونفيـــــــــرُ
كم إصبعن، كم (يا بدن) كم (أرجلن)
أضحت هناك إلى الفضول تشيرُ
وفي نهاية القصيدة يقول:

أبلغ طفارى لشيخ ألف تحيــــــــة
وسلامنا للبنكيين كثيـــــــرُ

وتحية خــــذها عليك "اسبيشلن"
مخصوص يعني "انجيز" يازنعيرُ
هذا ولا تخشى على راسـي فقد
شُفِي الوطاف . وعـوفي الحافورُ!" (8).
لم تكن القصيدة مجرد نظم فكاهي كما يظهر من أول مطالعة لها، لكن ثمة قضايا كثيرة مرتبطة بالعمل الوطني لصاحبها استطاع مناقشتها باستخدام ذكي للألفاظ والتراكيب لخدمة الفكرة، ويُلاحظ ذلك واضحًا من خلال المقطع الأول الذي نسبه لأحد الأسماء المستعارة، وفي أبياته تعليق على حادثة الضرب الذي تلقاها الفضول الشاعر، لكن محتوى الأبيات نموذج للسلوك التثبيطي تحت لافتة النصح الذي لطالما يلاقيه أرباب العمل الوطني، إذ يحاول المثبطون ثني عزائمهم عن بذل الجهد والوقت في مهام مقارعة الظالم، ويرون أن الصمت أسلم، وهذا تمامًا ما لاقاه الشاعر فعبّرعنه في أبيات المقطع الأول .
بقية القصيدة هي صرخة الثبات ورفض التثبيط لكن تحت عباءة الفكاهة والتسلية، والقصيدة هذه وسابقتها موقف أكثر منه قصة، ورسائل تحمل في طياتها تشخيصًا لظروف العمل الوطني القائم تلك الفترة وموقف الشاعر ومن وقف موقفه من الوطنيين آنذاك.

الهوامش
(1) ديوان : أشعار عبد الله عبد الوهاب نعمان (الفضول) ، الهيئة العامة للكتاب، الآفاق للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 2009م.
(2) صحيفة الثقافية، العدد : 490 ، 5/1/2009م.
(3) الصحافة الساخرة : هي طريقة لتقديم النقد اللاذع في جوٍ من الفكاهة والإمتاع، وتشكل مكونًا مهمًّا من مكونات مادة الرأي كونها تفسح المجال للتعبير وإيصال أصوات رافضة للأوضاع غير السوية، كما تمثل مشروعًا نقديًا يهدف إلى تقويم الواقع وانتشاله مما هو فيه من مظاهر سلبية. انظر مجلة شؤون عربية ، العدد 192، 2022م.
(4) صحيفة الفضول، العدد : 2 ، 31 ديسمبر 1948م.
5) إشارة لانتخابات المجلس التشريعي والتي نفذت في العام 1955م.
(6) صحيفة الفضول ، العدد : 6 ، 28 فبراير 1949م.
(7) صحيفة الفضول ، العدد : 4 ، 31 يناير 1949م.
(8) صحيفة الفضول ، العدد : 5 ، 15 فبراير 1949م.