آخر تحديث :الأحد-02 نوفمبر 2025-10:00م

مجلة جرهم


سورية بعد العقوبات... مقومات التحوّل وأولويات التعافي

سورية بعد العقوبات... مقومات التحوّل وأولويات التعافي

الجمعة - 19 سبتمبر 2025 - 12:48 ص بتوقيت عدن

- جرهم ــ خاص

قبل أكثر من عقد من الزمن، تحوّلت سورية إلى واحدة من أكثر الدول خضوعًا للعقوبات الاقتصادية في العالم، إذ طالت القيود الدولية كل ما هو مرتبط بالقطاعين العام والخاص على السواء، فشملت المصارف والنفط والتجارة والاتصالات والطيران والتحويلات، وامتدت إلى كيانات وأفراد، لكن العقوبات لم تكن مجرد إجراء قانوني دولي، بل تحوّلت إلى جدار حديدي حال دون قدرة الدولة السورية على التفكير بالتغيير ناهيك عن تنفيذه.
بين عامي 2011 و2020، تقلّص الناتج المحلي السوري بأكثر من 60 في المئة، وارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 80 في المئة من السكان، وتآكلت قيمة الليرة حتى أصبحت مجرد رقم متحرك في السوق السوداء، أما الاستثمارات الأجنبية المباشرة فانعدمت، والتجارة الخارجية انكمشت، وتحوّلت البلاد إلى اقتصاد حرب قائم على التهريب والتحويلات و"اقتصاد الظل". لقد فرض قانون قيصر الأميركي عام 2020 قطيعة شبه شاملة بين دمشق والعالم، وعمّق حال العزلة المالية والتجارية، فلم يعد ممكنًا إطلاق أي مشروع اقتصادي كبير من دون مواجهة طوفان من العقوبات الثانوية والملاحقات القانونية الدولية، وهكذا، لم تكن العقوبات مجرد أداة ردع ضد النظام السياسي، بل أداة تدمير بطيء لقدرة الدولة ككل على العمل ولو بالحد الأدنى.
لكن في ربيع 2025، بدأت ملامح مشهد مختلف تتكوّن بهدوء، على خلفية سقوط نظام آل الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024ـ وما تلاه من تغير أولويات القوى الغربية الكبرى، وتزايد الانفتاح الخليجي على سورية. في تحوّل غير مسبوق منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، قررت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي خلال مايو (أيار) رفع معظم العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، استجابةً لوساطة المملكة العربية السعودية ودولة تركيا برفع العقوبات عن سورية الجديدة، ودعمًا لمسار الانتقال السياسي والإصلاح الاقتصادي. فقد أصدرت وزارة الخزانة الأميركية رخصة عامة تسمح بالتعاملات المصرفية والتجارية مع كيانات غير خاضعة إلى العقوبات، ووقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا أنهى الأوامر السابقة التي أسّست لنظام العقوبات الشامل، مع الإبقاء على العقوبات الفردية المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان والإرهاب. كذلك منحت وزارة الخارجية إعفاءً مؤقتًا من بعض بنود قانون قيصر لمدة 180 يومًا قابلة للتجديد، ما سمح بتنشيط قطاعات حيوية مثل الطاقة والبنية التحتية دون رفع القانون نفسه أو تعليق دائم لأحكامه.
في المقابل، أقرّ الاتحاد الأوروبي سلسلة تشريعات ألغى بموجبها معظم القيود المفروضة منذ عام 2011، شاملةً قطاعات المصارف والطاقة والنقل، وأزال عشرات الكيانات السورية من قوائم التجميد، مع استمرار العقوبات الفردية بحق رموز النظام السابق والمتورطين في جرائم جسيمة. هذا الانفتاح الأميركي الأوروبي لا يعني إنهاء الضغوط، بل إعادة توجيهها نحو دعم الاستقرار من دون التخلي عن أدوات المحاسبة.
تزامنت القرارات الأميركية والأوروبية مع تشكيل الرئيس الشرع حكومة جديدة في دمشق، ضمت تكنوقراطيين وخبراء اقتصاديين مستقلين. هذه الحكومة التي وُصِفت بأنها أول "فريق إنقاذ اقتصادي" منذ سنوات، مُنِحت صلاحيات واسعة لتنفيذ برنامج إصلاحي يمتد حتى عام 2030، في محاولة للاستفادة من "الهدنة العقابية" وتحويلها إلى بوابة للعبور إلى اقتصاد مختلف.

ما الذي تمتلكه سورية اليوم؟
على رغم الدمار الكبير، لا تزال سورية تملك مقومات أساسية تمكّنها من إطلاق عملية تحوّل إذا وُظّفت بعقلانية. فالموقع الجغرافي بين الخليج وتركيا وأوروبا يمنحها مزية استراتيجية لا تزال صالحة، ولاسيما في ظل المشاريع الجديدة لنقل الغاز والطاقة عبر شرق حوض البحر المتوسط، ومرافئ اللاذقية وطرطوس التي يمكن أن تتحوّل إلى منصات لوجستية إقليمية. أما الموارد الطبيعية، فهي جذّابة للاستثمارات: من النفط والغاز في الشرق، إلى الفوسفات في تدمر، والمياه الجوفية في الجنوب. وتشير تقديرات مستقلة إلى أن حقول الفوسفات وحدها قادرة على تأمين إيرادات تفوق مليار دولار سنويًا إذا استُثمرت بكفاءة. وعلى المستوى البشري، لا تزال سورية تملك رأسمال بشري نوعي، سواء من الكفاءات المتبقية في الداخل، أو من المهاجرين المؤهلين الذين يتجاوز عددهم ستة ملايين، يحمل كثير منهم خبرات في الإدارة والتكنولوجيا والهندسة والطب والبرمجة. هذا الرأسمال البشري بات عنصرًا محوريًا في الخطط الحكومية، ولاسيما بعد إطلاق مبادرات تسعى إلى إعادة دمج الطاقات الشابة المهاجرة في الاقتصاد المحلي عبر الاستثمار، سواء عن بعد أو بعد العودة إلى ربوع الوطن، وتأسيس شبكات خبرة دولية داعمة.
كذلك تُعَد بنية الدولة، على رغم تهالكها، قائمة وقابلة للإصلاح، ولاسيما بعد تعهّد الحكومة الجديدة بتحديث القطاع العام عبر أدوات رقمية وإدارية، منها منصة موحدة للعقود العامة وهيئة مستقلة للرقابة المالية، يجري تأسيسها بالشراكة مع مؤسسات دولية. الأهم أن هناك استعدادًا سياسيًا نادرًا للتعاون مع الخارج، وفق شروط الشفافية والاستقلالية، وهو ما لم يكن ممكنًا خلال العقد الماضي من الزمن. هذا الانفتاح لا يقتصر على الخليج، بل يشمل أيضًا دولًا مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، التي بدأت بدراسة فرص الاستثمار الصناعي والزراعي في سورية، في إطار رغبتها بالدخول إلى منطقة شرق المتوسط من بوابة اقتصادية لا سياسية.

تداعيات رفع العقوبات
حين أعلن ترامب القرار الأميركي برفع العقوبات عن سورية لدى لقائه الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض منتصف مايو (أيار) بوساطة سعودية، تولاها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بدأ الأثر يظهر سريعًا، فارتفعت تحويلات المغتربين بنسبة 34 في المئة خلال شهر واحد، وتحسن سعر صرف الليرة بنسبة تجاوزت 25 في المئة، ووقّعت شركات إماراتية مشاريع إسكان وبنى تحتية في ريف دمشق واللاذقية، فيما أعادت شركات شحن لبنانية وتركية نشاطها عبر مرفأ طرطوس، وسُجّل ارتفاع في عدد العائدين من لبنان والأردن تجاوز 18 ألف شخص خلال شهرين فقط، وفق مفوضية اللاجئين. إضافة إلى ذلك، عاد عدد من المنظمات الدولية إلى العمل من داخل سورية بعد غياب سنوات، ما أتاح إمكانيات جديدة للشراكة في مجالات التعليم والصحة والخدمات البلدية.
وكانت الحكومة السورية أعلنت في يونيو (حزيران) 2025 عن خطط وطنية للتعافي تقسم العمل إلى ثلاث مراحل زمنية متكاملة. في الأجل القريب، تركز الجهود على تثبيت استقرار الاقتصاد الكلي، من خلال ضبط سعر الصرف، وإعادة تأهيل شبكة الكهرباء، وتوفير الأمن الغذائي عبر نظام الدعم الذكي، وتعديل قانون الاستثمار للسماح بالتملك الجزئي للأجانب. أما في الأجل المتوسط، فالمحور الأساسي هو إصلاح النظام المصرفي، واستقطاب مصارف عربية وإسلامية، وربط التعليم بسوق العمل، وتوسيع العلاقات التجارية مع دول الجوار، إضافة إلى إعادة إعمار عشرات الآلاف من الوحدات السكنية. وتشمل هذه المرحلة أيضًا تطوير المنظومة الضريبية لتكون أكثر إنصافًا، وتخفيض الرسوم الجمركية على المواد الأولية المستوردة لإعادة تنشيط الإنتاج الصناعي.
وفي الأجل البعيد، حتى عام 2030، تسعى الحكومة إلى تحويل سورية إلى مركز عبور لوجستي للطاقة والبضائع بين الخليج وأوروبا، وتعزيز الصناعة الدوائية والغذائية، وتحقيق فائض تجاري نسبي، واستقطاب ما لا يقل عن مليون مغترب سوري للمساهمة في البناء من الخارج أو العودة التدريجية. وتطمح دمشق إلى التفاوض مع مؤسسات التمويل الدولية، مثل البنك الدولي والبنك الإسلامي للتنمية، لتأمين قروض ميسّرة بعيدة الأجل تخصص لإعادة تأهيل القطاعات الحيوية، من الكهرباء إلى المياه والنقل الجماعي.

العوائق البنيوية وطرق تجاوزها
لكن الطريق ليست معبّدة. التحديات أمام هذه الرؤية كثيرة، أبرزها شبكة المصالح الاقتصادية المتجذّرة في قلب الإدارة والاقتصاد، والتي تقاوم أي تغيير حقيقي في هيكل السوق. كذلك فإن ضعف الثقة الشعبية بحكومات ما بعد الحرب لا يزال عميقًا، إذ تُظهِر استطلاعات الرأي أن أكثر من ثلثي السوريين يشككون في جدية الوعود الرسمية، ويخشون استغلال رفع العقوبات لإعادة إنتاج الفساد بدلًا من محاربته. أيضًا، هناك تداخل الاحتلالات والنفوذ الأجنبي في أجزاء واسعة من البلاد، من الشمال الشرقي الخاضع إلى حماية أميركية ضمنية، إلى مناطق النفوذ التركي، وصولًا إلى الوجود الروسي والإيراني في مناطق حيوية، ما يجعل التخطيط الاقتصادي الوطني أمرًا بالغ التعقيد.
إضافة إلى ذلك، تُظهِر تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 45 في المئة من الشباب السوري خارج سوق العمل أو التعليم، ما يهدد بقيام جيل غير منتج اقتصاديًا. كذلك لا يزال الأمن الغذائي هشًا، إذ تعتمد البلاد على استيراد أكثر من 60 في المئة من حاجاتها من القمح والرز والزيت والسكر، مما يجعلها عرضة إلى الصدمات الخارجية وتقلبات الأسواق. ولذلك، يبقى التعافي في سورية مرهونًا بقدرة الدولة على الانتقال من المعالجات الإسعافية إلى إعادة بناء اقتصادية عميقة.
إذا كانت المراحل السابقة من الأزمة السورية قد طغى عليها منطق المحاور، لا شك في أن مرحلة ما بعد العقوبات تفتح الباب أمام خيار استراتيجي جديد يتمثّل في "الحياد البراغماتي"، أي تموضع سورية خارج الاستقطاب الإقليمي في مقابل أدوار اقتصادية عملية. وهذا المسار ليس جديدًا على التاريخ السوري، فقد سبق لدمشق في خمسينيات القرن العشرين أن أدّت دورًا محوريًا في التجارة البرية بين الخليج والبحر المتوسط، واحتضنت شركات متعددة الجنسيات، واستضافت رؤوس أموال لبنانية وعراقية، واستفادت من موقعها كبوابة للعبور بين المشرق والمغرب.
اليوم، يعود هذا الخيار إلى الطاولة بقوة، لكن من ضمن شروط جديدة: بيئة استثمار عالمية متحوّلة، وسباق إقليمي على الموانئ والممرات، وتعاظم دور الاقتصاد الرقمي. وإذا استطاعت سورية الاستجابة لهذه الشروط، قد يكون مستقبلها ليس فقط في إعادة الإعمار، بل في إعادة التموضع الجذري كنموذج للانتقال من اقتصاد ما بعد الحرب إلى اقتصاد ما بعد الدولة الريعية. ولتحقيق ذلك، لا بد من تكوين بيئة قانونية واقتصادية تضمن الحد الأدنى من الحوكمة، وتأسيس جهاز دولة قادر على ضبط المصالح لا تمثيلها، والانتقال من منطق الصفقات إلى منطق السياسات.

أخيرًا
ثمّة فرصة حقيقية لأن تصبح سورية، في غضون خمس إلى سبع سنوات، مختبرًا اقتصاديًا سياسيًا في قلب المشرق، شرط أن تحمي تجربتها من فخاخ الماضي، وتستثمر في الإنسان أكثر من الحجر، وفي المعلومة أكثر من الشعارات. فالتحوّل ليس قرارًا سياسيًا فقط، بل هو عملية تاريخية طويلة، تتطلّب نفسًا مؤسسيًا عميقًا، وقيادة تمتلك الشجاعة لا للمواجهة، بل للتغيير.
سورية، وقد خرجت للتو من نفق العقوبات، ليست في حاجة إلى "خطة مارشال" بقدر ما هي بحاجة إلى "لحظة صدق" بين الدولة والمجتمع، وبين الداخل والخارج، عنوانها: كيف نُعيد تأسيس وطن قادر على العيش من دون قيد أو وصاية، في زمن تتغير فيه خريطة العالم بوتيرة غير مسبوقة.
أمام دمشق فرصة حقيقية في قلب واقعها الاقتصادي، فهل تلتقطها الدولة السورية الجديدة؟..