آخر تحديث :الخميس-16 أكتوبر 2025-11:53م

مجلة جرهم


انعكاسات استهداف النووي الإيراني على مستقبل التوازنات الاقليمية

انعكاسات استهداف النووي الإيراني على مستقبل التوازنات الاقليمية

الخميس - 16 أكتوبر 2025 - 11:09 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. محمد عبدالمجيد قباطي - سياسي ودبلوماسي يمني

مقدمة
بقصف محدود يحمل رسائل غير محدودة، وفي يونيو 2025، نفّذت القوات الأميركية بأمر من الرئيس دونالد ترامب ضربات دقيقة استهدفت ثلاث منشآت نووية إيرانية، في نطنز وفردو وأراك. العملية استغرقت دقائق، والطائرات عادت دون خسائر أو توسّع في الاشتباك. ورغم محدودية العملية من حيث النطاق العسكري، فإن دلالاتها السياسية والاستراتيجية تتجاوز بكثير ما حدث ميدانيًا. فقد اختارت واشنطن بعناية أهدافها النووية، وتجنّبت عن قصد استهداف البنية التحتية للحرس الثوري، أو مواقع منصات الصواريخ، أو حتى مقار القيادة. هذه الانتقائية تطرح سؤالًا جوهريًا: هل كانت تلك الضربات تحذيرًا ضمن إطار ردع محدود، أم جزءًا من تسوية غير معلنة تُبقي على جوهر النظام الإيراني ومشروعه التوسعي مقابل تخلّيه عن طموحه النووي؟!

القصف وحدود النية السياسية
ما لم يُستهدف كان أبلغ مما ضُرب. فقد تجنّبت الضربة أي مساس بالأذرع الإقليمية أو منظومات الردع غير التقليدية التي يستخدمها النظام الإيراني لتثبيت نفوذه في العراق وسورية ولبنان واليمن. الرسالة هنا واضحة: واشنطن أرادت أن تقول لطهران إن الخط الأحمر هو النووي، وما دونه قابل للتجاهل أو التسامح المرحلي. مثل هذا التمييز بين “الخطر النووي” و”النفوذ التقليدي” يعكس مقاربة أميركية اختزالية ترى في القنبلة التهديد الأساسي، لكنها تغض الطرف عن الشبكات التي تعمل بها إيران لبسط هيمنتها دون الحاجة إلى سلاح نووي.
إن تعمّد واشنطن الاكتفاء بضرب المنشآت النووية دون المساس بكيان النظام أو أذرعه يعزز فرضية أن هناك معادلة غير معلنة تتشكل: لا قنبلة في مقابل بقاء أدوات السيطرة الإقليمية. وبهذا المنطق، كأن النظام الإيراني قدّم تنازلًا محسوبًا، واحتفظ بما هو أثمن من المشروع النووي في نظر دوائر القرار في طهران، وهو أدوات النفوذ على الأرض: من بيروت إلى صنعاء، مرورًا ببغداد.
وقد تكون هذه المقايضة، في نظر ترامب، "صفقة رابحة" تكرّس وقف التقدم النووي الإيراني دون التورط في مستنقع الشرق الأوسط.. وما يدعم هذه الفرضية الآن هو بروز مؤشرات تفاوضية غير مباشرة في تصريحات متزامنة من واشنطن وطهران، تشير إلى أن الضربة قد تكون فتحت نافذة لتفاهمات ضمنية، تحمي النظام وتحد من التخصيب العالي، دون المساس بتركيبة السلطة ومجال نفوذها.

النووي كورقة وليس غاية
منذ الاتفاق النووي في 2015، يبدو أن إيران تتعامل مع مشروعها النووي كورقة تفاوض لا كغاية وجودية. هي تدرك أن العتبة النووية تمنحها نفوذًا تفاوضيًا دون الحاجة إلى امتلاك القنبلة فعليًا. ما تريده طهران فعلًا هو ترسيخ شرعية نظامها داخليًا، وفرض شروطها في الجوار من خلال أدوات غير تقليدية: وكلاء محليون، شبكات استخباراتية، ونفوذ اقتصادي عابر للحدود. ومن هذا المنطلق، فإن تخلّيها المؤقت عن التخصيب العالي قد لا يكون إلا تكتيكًا مرحليًا لتجنب العقاب الأميركي، مع الاحتفاظ بكل عناصر قوتها الإقليمية. بل إن الضربة الأخيرة قد تُوظّف داخليًا لإعادة تعبئة الجبهة الداخلية وتبرير سياسة الرد بالوكالة.

ماذا يُفهم من ذلك؟
في الخليج، لم يُقرأ هذا القصف على أنه تحذير صارم بقدر ما فُهم كمؤشر على حدود الانخراط الأميركي في المنطقة. فالرسالة الضمنية التي تلقّتها العواصم الإقليمية مفادها أن واشنطن لا تعتزم الذهاب أبعد من وقف المشروع النووي الإيراني، وأنها غير مستعدة لخوض مواجهة شاملة لكبح مشروع التمدد الإيراني. والأسوأ من ذلك أن إيران قد تفسر هذا التجنب الأميركي كضوء أخضر لمضاعفة حضورها في ملفات “ما دون النووي”، من البحرين إلى غزة، ومن مضيق هرمز إلى باب المندب.
وقد بدأ هذا التفسير يتجسد بالفعل: صعّدت جماعة الحوثي هجماتها على الملاحة الدولية باستخدام مسيرات متطورة، وشهدت الحدود اللبنانية- الإسرائيلية تصعيدًا غير مسبوق من قبل حزب الله، في استعراض لقوة "الرد غير المتماثل" الذي بقي خارج مرمى الضربة الأميركية. هذه التطورات تُنبئ بأن إيران، وإن امتنعت عن الرد المباشر، اختارت توسيع هامش نفوذها عبر الأذرع، مستغلة غياب الردع الأميركي في هذا النطاق.
في اليمن، تُجسِّد جماعة الحوثي التمثيل الأوضح لنجاح الاستراتيجية الإيرانية “ما دون النووية”. فهي تملك صواريخ موجهة، وطائرات مسيّرة، وقدرة على تعطيل الملاحة العالمية في البحر الأحمر، وكل ذلك دون أن تكون على رادار الضربات الأميركية.. إن تجاهل الحوثيين في ضربة يونيو 2025 ليس مسألة تقنية، بل خيار سياسي يعكس سياسة فصل أميركية خطيرة: قصف النووي، وترك الصاروخ.
أما في الخليج، فقد بدت ملامح انقسام في تقييم الضربة؛ بين من اعتبرها كافية لردع النووي، ومن يرى أنها كشفت حدود الالتزام الأميركي ودفعت نحو البحث عن ترتيبات أمنية بديلة مع قوى دولية أخرى. وبهذا، فإن "للاستراتيجية" الأميركية لا تُضعف فقط خصوم واشنطن، بل تقوّض الثقة بين شركائها أيضًا، وتفتح الباب أمام سباقات تسلّح وتكتلات أمنية قد تتقاطع أو تتصادم مع حسابات واشنطن نفسها.
وختامًا
إن الضربات الأميركية التي نُفذت في يونيو 2025، واقتصرت على المنشآت النووية الإيرانية، تعكس قرارًا محسوبًا بحصر التصعيد في الملف النووي، دون السعي إلى إسقاط النظام أو تقويض أدواته غير النووية. لكن هذه الانتقائية تخلق فراغًا استراتيجيًا، إذ تمنع إيران من امتلاك السلاح النووي دون أن تضع حدًا لنفوذها التقليدي، ما يجعل تسوية كهذه أشبه بتأجيل للانفجار لا منعه.
والمفارقة أن بعض هذا الانفجار بدأ فعليًا، عبر تحركات الأذرع وتباينات الحلفاء، ما يعني أن "الردع المحدود" لا يكفي لتأمين استقرار إقليمي طويل الأمد، في ظل ترهل النظام الإقليمي التقليدي، وتوسع دائرة الحروب بالوكالة، دون إطار ردع شامل أو رؤية استراتيجية واضحة من الطرف الأميركي لمواجهة ذلك.