آخر تحديث :الإثنين-20 أكتوبر 2025-07:29م

مجلة جرهم


"الحزام والطريق" وسلاسل التوريد.. الطموحات الصينية ومخاوف الغرب

"الحزام والطريق" وسلاسل التوريد.. الطموحات الصينية ومخاوف الغرب

الإثنين - 20 أكتوبر 2025 - 07:29 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ د. عبدالقادر العواضي ــ باحث وخبير في التنمية الاقتصادية ـ اليمن


مقدمة
أعلنت الصين عن إطلاق ممر التجارة البري- البحري الدولي الجديد، وهو ممر خاص بالتجارة واللوجستيات تم بناؤه بشكل مشترك من قبل مناطق غرب الصين ودول "الآسيان"؛ ووفقًا لوكالة "شينخوا" الصينية، فإن توسيع خدمة الشحن البري- البحري من غربي الصين إلى خنان "وسط الصين" يتميز بأهمية كبيرة في تعزيز التواصل بين الأجزاء الوسطى والغربية من البلاد، ما يضمن مشاركة الفرص التي توفرها الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة بين المزيد من الناس.
وسيتم نقل البضائع والمواد الخام من المقاطعة الوسطى بشكل مستمر إلى أسواق الدول الأعضاء في الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عبر هذه القناة.
ودول الآسيان تكتل تم إنشاؤه في العام 1967 يضم 10 دول هي بروناي، وكمبوديا، وإندونيسيا، ولاوس، وماليزيا، وميانمار، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، وفيتنام.
في السياق نفسه مازالت الصين تحتفي بمشروعها الاقتصادي التجاري العالمي "مبادرة الحزام والطريق" وتعتبره إحياءً لـ"طريق الحرير القديم"، وتَعتبر الحكومة الصينية مبادرتها نافعةً منفعةً اقتصادية شاملة على مستوى دول العالم بسبب ربط الطريق بين الشرق والغرب ومنها إلى الدول العربية أيضًا، كما جلبت المبادرة مئات المليارات من الدولارات إلى العالم النامي في شكل بنية تحتية وصحة عامة وارتباطية رقمية.
ويقول خبراء اقتصاديون -بحسب شبكة تلفزيون الصين الدولية- إن طريق الحرير القديم، الذي يمتد لآلاف الأميال ويعود لآلاف السنوات وكان قناةً للتبادلات التجارية والاقتصادية والثقافية بين آسيا وأوروبا في العصور القديمة، يجسد روح التعاون والانفتاح والشمولية والتعلم المتبادل والمنفعة المتبادلة.
وتتمسك الصين بإعادة إحياء طريق الحرير القديم من خلال مبادرتها الجديدة "الحزام والطريق" التي تم الكشف عنها في العام 2013، والتي يعتبرها الخبراء وسيلة ضخمة توسع نفوذ الصين في مواجهة الهيمنة الأمريكية الاقتصادية في العالم، وتهدف الصين من خلالها إلى بناء سوق كبير موحد والاستفادة الكاملة من الأسواق الدولية والمحلية، من خلال التبادل الثقافي والتكامل وتدفق رأس المال وقاعدة بيانات التكنولوجيا.
كما قضت اتفاقية صينية إيرانية بضم طهران إلى مشروع طريق الحرير عبر إنشاء ممر سكك حديدية تربط الصين بـ أوروبا عبر إيران... حيث يقول بروتوكول الاتفاق بأن الممر سيبدأ من الصين وكازاخستان وتركمانستان مرورًا بإيران عبر منطقة "سرخس" (شمال شرق) ومن ثم يتصل بـتركيا وبالتالي أوروبا.
ومنذ أن أطلقت الصين مبادرة "الحزام والطريق" عام 2013، بات واضحًا أن بكين لا تسعى فقط لتعزيز موقعها في التجارة الدولية، بل لتشكيل معالم جديدة للاقتصاد العالمي من خلال إعادة هيكلة سلاسل التوريد والتحكم في البنى التحتية الحيوية العابرة للقارات. وفي المقابل، ينظر الغرب إلى هذه الطموحات بكثير من القلق، خصوصًا في ظل تزايد التوترات الجيوسياسية وتراجع الثقة في استقرار العولمة بصيغتها التقليدية.
حيث تنظر واشنطن إلى طريق الحرير البحري الذي تستثمر فيه الصين في البنية التحتية للموانئ في كافة أنحاء العالم، كتهديد للأمن القومي الأمريكي، حيث تشكل شبكة الموانئ الصينية تحديًا للمصالح الأمنية الأمريكية، فيما تدير الصين أو تمتلك بشكل مباشر موانئ ومحطات أكثر من 100 منطقة في أكثر من 50 دولة حول العالم (واشنطن بوست).

مفهوم طريق الحرير الجديد
1- الخلفيات والأهداف الاستراتيجية والاقتصادية
الخلفية التاريخية:
طريق الحرير التقليدي كان شبكة من طرق التجارة البرية والبحرية تربط الصين بآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وأوروبا، منذ أكثر من ألفي عام. أعادت الصين إحياء هذا المفهوم في القرن الحادي والعشرين من خلال "مبادرة الحزام والطريق" التي أعلن عنها الرئيس الصيني شي جين بينغ سنة 2013. وتهدف المبادرة إلى تعزيز النفوذ الصيني عالميًا من خلال:
• ربط الصين بأسواق ومصادر طاقة جديدة.
• تقوية تحالفات جيوسياسية مع الدول النامية.
• خلق فضاء اقتصادي بقيادة بكين يوازن النفوذ الغربي، لا سيما الأمريكي.
الهدف الاقتصادي:
• فتح أسواق جديدة للمنتجات الصينية.
• استثمار الفوائض المالية الصينية في مشاريع بنية تحتية.
• تأمين طرق التجارة وخفض التكاليف اللوجستية.
• تشجيع التنمية في مناطق داخلية صينية تعاني من ضعف اقتصادي.
2- البنية التحتية: الموانئ، الطرق، السكك الحديد، الممرات الرقمية:
‌أ- الموانئ:
موّلت الصين وطوّرت موانئ رئيسية في آسيا، إفريقيا، وأوروبا (مثل ميناء جوادار في باكستان، وميناء بيرايوس في اليونان)، وتسعى لتحكم استراتيجي في عقد النقل البحري العالمي.
‌ب- الطرق والسكك الحديدية:
بناء طرق سريعة عابرة للدول، مثل "الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني"، بالإضافة إلى سكك حديد حديثة تربط الصين بوسط آسيا وأوروبا (مثل قطار "تشونغتشينغ - دويسبورغ").
‌ج- الممرات الرقمية:
الاستثمار في البنية التحتية الرقمية (كالألياف البصرية، وشبكات الجيل الخامس)، ودعم صادرات التكنولوجيا الصينية، مثل "هواوي" و"زد تي إي"، وتعزيز الهيمنة في الفضاء السيبراني على المدى البعيد.

إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية
إذا ما فهمنا أن سلاسل التوريد تشير إلى العملية الكاملة التي يتم من خلالها إنتاج وتوزيع السلع أو الخدمات، بدءًا من استخراج المواد الخام مرورًا بجميع الخطوات اللازمة لإنتاج وتوصيل السلع أو الخدمات، من المواد الخام إلى المستهلك النهائي، وتشمل التوريد، والتصنيع، والتخزين، والتوزيع والبيع.. سنجد كم أن هذا الموضوع بالغ الأهمية، حيث يكشف البعد الاقتصادي العميق خلف مشروع طريق الحرير الجديد، ويمثل أحد أوجه التحول في النظام العالمي. لنفصّل:
1- الاستثمارات الصينية في آسيا، وإفريقيا، وأوروبا:
تتبع الصين استراتيجية تقوم على الاستثمار طويل الأمد في البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية داخل البلدان النامية والمتقدمة على السواء، مما يتيح لها السيطرة أو التأثير في نقاط استراتيجية من سلاسل التوريد.
ففي آسيا، هناك استثمارات ضخمة في باكستان، لا سيما "الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني"، كما قامت بتوسيع الشراكات مع دول جنوب شرق آسيا عبر "رابطة آسيان"، وإقامة شراكات تكنولوجية وصناعية في ماليزيا وإندونيسيا.
وفي إفريقيا أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للقارة، وقامت بتمويل مشاريع سكك حديدية (مثل خط أديس أبابا – جيبوتي)، كما قامت ببناء مناطق صناعية ومجمعات لوجستية، بالإضافة إلى القيام باستثمارات في الموارد الطبيعية: معادن، ونفط، وأراضٍ زراعية.
وفي أوروبا قامت الصين بشراء أصول استراتيجية مثل موانئ، أبرزها ميناء "بيرايوس" في اليونان، كما عقدت اتفاقيات تعاون مع دول البلقان ودول أوروبا الشرقية ضمن "16+1"، وتسعى لاختراق الأسواق الأوروبية بمنتجات صينية عالية التقنية.
2- محاولات تقليل الاعتماد على الغرب وزيادة النفوذ في سلاسل التوريد
تعمل الصين على تفكيك الهيمنة الغربية على سلاسل الإنتاج والتوزيع عبر عدة آليات:
‌أ- إعادة توطين الصناعة:
وذلك من خلال تشجيع الصناعات الثقيلة والمتقدمة على العودة من الغرب إلى آسيا، بالإضافة إلى الاستثمار في التكنولوجيا المحلية لتقليل الاعتماد على الغرب، خاصة في مجالات أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.
‌ب- تنويع مصادر الاستيراد والتصدير:
من خلال تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمصدرين رئيسيين للمواد الخام أو الزبائن النهائيين، وتعزيز التبادل التجاري مع "الجنوب العالمي".

‌ج- التحكم في المواد الاستراتيجية:
قامت الصين بالسيطرة على مناجم ومعالجة المعادن النادرة المستخدمة في التكنولوجيا المتقدمة، وتسعى للتفاوض على عقود طويلة الأمد في قطاعات الطاقة.
‌د- سلاسل توريد بديلة:
أنشأت الصين مسارات جديدة بعيدًا عن الممرات التقليدية (مثل قناة السويس)، عبر ممرات برية وبحرية بديلة، بالإضافة إلى قيامها بتطوير شبكة رقمية لتسهيل تتبع وتحكم الصين في تدفق البضائع عالميًا.

المخاوف الغربية
هذا المحور يفتح بابًا مهمًا لفهم التحفّظات الغربية على مشروع الحزام والطريق، والذي يُنظر إليه في بعض الأوساط الغربية ليس فقط كمشروع تنموي، بل كمشروع جيوسياسي توسعي. لنُحلّله:
1- اتهامات "الدبلوماسية" بفخ الديون:
هذه الاتهامات تشير إلى استراتيجية يُقال إن الصين تستخدمها لإغراق الدول النامية بالديون من خلال تمويل مشاريع ضخمة تفوق قدرة الدول على السداد، ثم الاستحواذ على أصول استراتيجية مقابل تلك الديون.
ومن الأمثلة التي تُطرح دائمًا ميناء هامبانتوتا في سريلانكا، فبعد فشل الحكومة في سداد ديونها، مُنحت الصين عقد تشغيل الميناء لمدة 99 عامًا، بالإضافة إلى بعض الحالات المشابهة التي تُثار في دول إفريقية وآسيوية؛ من جهتها ترفض الصين الاتهام، وتقول إنها تُلبّي احتياجات تنموية لا يموّلها الغرب، كما تُشير إلى أن معظم الديون التي تقدمها بشروط ميسّرة.
وهنا يبرز تساؤل مفاده: هل هناك نيّة استعمارية اقتصادية صينية؟ أم أن سوء الإدارة من جانب الدول المتلقية هو السبب؟، وهنا يجب التوازن بين التنمية الحقيقية والاعتماد المفرط على التمويل الصيني.
2- القلق من السيطرة الصينية على الموانئ وطرق الشحن الحيوية:
يعتبر الغرب أن الصين تسعى إلى الهيمنة على "مفاتيح" التجارة العالمية عبر شراء أو تشغيل موانئ رئيسية على طول طريق الحرير البحري، وإنشاء شبكة لوجستية تتحكم بها الشركات الصينية في آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، حيث تتلخص المخاوف الاستراتيجية بالآتي:
• إمكانية استخدام هذه الموانئ لأغراض عسكرية مستقبلًا.
• تقويض هيمنة الشركات الغربية في قطاع الشحن والخدمات المينائية.
• تحويل بعض الموانئ إلى "نقاط مراقبة بحرية".
3- التداعيات الأمنية والاقتصادية على أوروبا وأمريكا:
أمنيًا .. تزايد النفوذ الصيني في مناطق حساسة (البلقان، القرن الإفريقي، البحر المتوسط) يُقلق الناتو، مع احتمالية إنشاء قواعد عسكرية صينية تحت ستار الموانئ التجارية.
اقتصاديًا.. تخوف من إغراق الأسواق الأوروبية بالبضائع الصينية الرخيصة، وشكاوى من غياب مبدأ "المعاملة بالمثل" في العلاقات التجارية مع الصين، وأيضًا صعود الصين كمركز تقني عالمي يقلق أمريكا خاصة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، 5G، والروبوتات.

التنافس الجيوسياسي والاقتصادي
هذا المحور يعكس التحوّل الجذري في موازين القوى العالمية، حيث لم تعد المنافسة تدور فقط حول السلاح والسيطرة العسكرية، بل حول من يتحكم بالبنية التحتية وسلاسل التوريد، ومن يضع المعايير الاقتصادية والتكنولوجية.
1- الردود الغربية
هناك مبادرة أطلقتها مجموعة الدول السبع (G7) في 2021 كبديل لمبادرة الحزام والطريق الصينية، تهدف إلى:
• توفير تمويل شفاف ومستدام للدول النامية لبناء بنية تحتية عالية الجودة.
• دعم مشاريع الطاقة المتجددة، والرقمنة، والتعليم، والصحة.
• تعزيز القيم الغربية (مثل الشفافية، وحقوق الإنسان، والحكم الرشيد) كمقابل للنفوذ الصيني.
آليات التنفيذ:
• توظيف رؤوس أموال من القطاع الخاص.
• التركيز على الشراكات وليس القروض الثقيلة.
• تعزيز التنسيق بين أوروبا وأمريكا واليابان وأستراليا.
التحديات:
• بطء التنفيذ مقارنة بسرعة الصين.
• قلة الحوافز المالية الجذابة مقارنة بالتمويل الصيني المرن.
• غياب رؤية موحدة داخل الغرب أحيانًا.
2- إعادة التفكير في مفهوم الأمن الاقتصادي وسلاسل التوريد "الآمنة":
بعد أزمة كورونا، وحرب أوكرانيا، وتصاعد التوتر مع الصين، بدأ الغرب يعيد النظر في مفاهيم الأمن القومي من زاوية اقتصادية، فلم يعد مفهوم "الأمن الاقتصادي" مقتصرًا على حماية الحدود، بل يشمل أمن البيانات، والتوريد، والتكنولوجيا، والموارد، حيث تم إصدار قرارات مثل فرض قيود على صادرات أشباه الموصلات للصين تعكس هذا التحول.
أيضا تم تقليل الاعتماد على الصين كمركز صناعي عالمي في بناء سلاسل توريد "آمنة" و"مرنة"، من خلال دعم ما يُسمى بـ"التمركز القريب" (Nearshoring)** أو "الصداقة في التوريد" (Friend-shoring) : أي نقل سلاسل التوريد إلى دول حليفة سياسيًا (مثل الهند، فيتنام، المكسيك...)، بالإضافة على الاستثمار في إنتاج محلي أو إقليمي للسلع الاستراتيجية (كالرقائق، الأدوية، المعادن النادرة).
بالتالي، أصبح الصراع بين الصين والغرب مزيجًا من الجغرافيا السياسية، والاقتصاد، والتكنولوجيا، والقيم. الغرب يحاول استعادة دوره القيادي، والصين تريد إثبات أن "الطريق الصيني" قادر على قيادة العالم أيضًا.

الحالة الراهنة والاتجاهات المستقبلية
هذا المحور يُعدّ خلاصة تركيبية لما سبق، ويأخذنا نحو استشراف مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، خصوصًا في ظل الأزمات الجيوسياسية المتفاقمة. لنُحلّله وفق ثلاث زوايا أساسية:
1- تأثيرات الحروب (مثل أوكرانيا – روسيا) على سلاسل التوريد:
كانت الحرب الأوكرانية الروسية اختبارًا قاسيًا لسلاسل التوريد العالمية، وأظهرت مدى هشاشتها، حيث حدث انقطاع في إمدادات الطاقة والغذاء، خاصة في أوروبا، نتيجة الاعتماد على الغاز الروسي، وتعطلت حركة النقل البحري والبري في مناطق عدة من أوراسيا، بالإضافة إلى ارتفاع تكاليف الشحن والتأمين والتأخير في وصول المواد الأولية، وإعادة تركيز الغرب على الأمن الغذائي والطاقة المستقلة، والنتيجة: أصبحت الدول تُدرك أن سلاسل التوريد ليست مجرد "تكاليف وتجارة"، بل "أمن قومي واستراتيجي".
2- توجهات إزالة المخاطر بدلًا من فك الارتباط:
في البداية، طرحت بعض الدول الغربية (خاصة أمريكا) فكرة "فك الارتباط" الاقتصادي الكامل مع الصين، لكن هذا بدا غير عملي، لأنه فك تام للارتباط، وسيكون صعبًا ومكلفًا، ونظرًا للتشابك العميق في الاقتصاد العالمي، فقد كان البديل -الذي ظهر لاحقًا- هو "إزالة المخاطر"، وهي لا تعني قطع العلاقات مع الصين، بل تقليل الاعتماد المفرط عليها في القطاعات الحساسة، وبناء بدائل موثوقة وموزعة جغرافيًا، والتعامل مع الصين كمنافس، لا كشريك استراتيجي.

3- مكانة الدول النامية في هذا التنافس:
الدول النامية تقف الآن على مفترق طرق، ويُمكن تلخيص موقعها ضمن هذا التنافس في ثلاث ملاحظات:
1. هدف استراتيجي للطرفين:
تسعى الصين لضمها إلى مبادرتها عبر مشاريع بنية تحتية وتمويل، فيما يعيد الغرب تقديم نفسه كبديل ديمقراطي وتنموي.
2. مساحة للمناورة:
بدأت بعض الدول تستفيد من التنافس عبر تنويع الشراكات (مثلًا: الهند، إندونيسيا، مصر، كينيا)، لكن الخطر يكمن في الوقوع في فخ الاستقطاب أو التبعية.
3. فرصة لإعادة التفاوض على دورها العالمي:
تستطيع الدول النامية أن تُعيد صياغة علاقاتها التجارية والسياسية بما يخدم مصالحها، إذا أحسنت إدارة موقعها بين القوتين.

حرب الرسوم الجمركية
يكشف محور حرب الرسوم الجمركية عن البعد الأكثر تصادمية في العلاقة بين الصين والولايات المتحدة، والذي يُعبّر عن صدام بين نموذجين اقتصاديين لا يتنافسان فقط على التجارة، بل على شكل النظام الاقتصادي العالمي نفسه.
1- خلفية الحرب التجارية (2018 – مستمرة):
بدأت الحرب فعليًا في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي فرض رسومًا جمركية على مئات المليارات من السلع الصينية، ثم ردّت الصين بإجراءات مماثلة، ثم تصاعدت التوترات لتشمل قضايا أوسع: الملكية الفكرية، والتكنولوجيا، والشركات مثل هواوي، والأمن السيبراني، وأشباه الموصلات؛ ورغم تولي جو بايدن الرئاسة، إلا أن السياسات الحمائية لم تتراجع، بل أصبحت أكثر دقة وتركيزًا، خاصة في المجالات التكنولوجية الحيوية. وقد أدت
2- تأثيرات الحرب على سلاسل التوريد العالمية:
‌أ- ارتفاع التكاليف العالمية:
أدّت الرسوم إلى رفع أسعار المواد الخام والمنتجات الوسيطة، مما زاد كلفة الإنتاج عالميًا.
‌ب- إعادة هيكلة سلاسل التوريد:
بدأت الشركات تنقل جزءًا من إنتاجها خارج الصين إلى دول مثل فيتنام، والهند، والمكسيك؛ هذه الظاهرة تُسمى “China + 1”: البقاء في الصين، مع نقل جزء من الإنتاج لدول أخرى لتقليل المخاطر.
‌ج- تشجيع التصنيع المحلي في الدول الغربية:
قدّمت أمريكا وأوروبا حوافز لإعادة الصناعات الاستراتيجية، مثل الرقائق وأشباه الموصلات إلى الداخل، كما أُطلقت مشاريع كبرى مثل "قانون الرقائق الأمريكي".
‌د- نمو اقتصادي لبعض الدول النامية:
أصبحت دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية بدائل جديدة في سلاسل التوريد.
3- أثر الحرب على مشروع طريق الحرير:
• إيجابي جزئيًا للصين: عزز من إصرارها على التوجه شرقًا وجنوبًا، فزادت استثماراتها في الدول النامية لتعويض الأسواق الغربية.
• سلبي جزئيًا: حدّ من قدرات الصين التصديرية في بعض المجالات الحساسة، وأضعف ثقة بعض الدول في الاعتماد الكلي على الصين.
• أجبر الصين على تطوير صناعاتها التقنية داخليًا، ما جعلها تتقدم بشكل ملحوظ في الذكاء الاصطناعي، والسيارات الكهربائية، والطاقة الخضراء، فحرب الرسوم لم تدمّر العولمة، لكنها أعادت تشكيلها. ولم تُنهِ مشروع طريق الحرير، لكنها أجبرته على التكيّف. والنتيجة: عالم متعدد المسارات، تتنافس فيه القوى العظمى على من يضع قواعد اللعبة الاقتصادية الجديدة.
وقبل أن نختم سوف نقوم بتحليل استراتيجي يُركّز على الدول العربية ضمن التنافس العالمي المحموم بين الصين والغرب، ثم نقدم خاتمة شاملة تلخّص المسار وتفتح آفاق التفكير.
الدول العربية في ضوء مبادرة الحزام والطريق:
أولًا: الفرص:
• موقع جغرافي استثنائي: فالعالم العربي يمتد على طول أهم الممرات العالمية: قناة السويس، ومضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وهذا يجعله نقطة ربط أساسية في مشروع طريق الحرير البحري والبري، ويعزز من قيمته الجيوسياسية.
• استقطاب الاستثمارات الصينية: فدول مثل السعودية، والإمارات، ومصر وقّعت اتفاقيات ضخمة مع الصين في مجالات الطاقة، والنقل، والتكنولوجيا، وقدمت الصين تمويلًا مرنًا وبشروط أقل تشددًا من الغرب، ما يجعلها شريكًا مفضّلًا للبنية التحتية.
• تنويع الشركاء الاستراتيجيين: فالانفتاح على الصين لا يعني قطع العلاقة مع الغرب، بل استخدام الورقة الصينية لإعادة التفاوض مع القوى الغربية وتحقيق التوازن.
ثانيًا: المخاطر:
• الوقوع في فخ الاستقطاب: فالاصطفاف مع أحد المحاور (الصيني أو الغربي) قد يُعرض الدول العربية لضغوط اقتصادية أو سياسية من الطرف الآخر.
• الصراع التكنولوجي والرقمي (مثل 5G والبيانات) قد يخلق حساسيات أمنية داخلية.
• الديون وغياب الشفافية: في بعض الحالات، تأتي المشاريع الممولة من الصين بشروط غامضة أو تحميل مالي كبير، مما قد يُهدد الاستقرار المالي على المدى الطويل.
• الاعتماد المفرط على الخارج: فالاعتماد على الصين (أو غيرها) في قطاعات حساسة، مثل التكنولوجيا أو الغذاء، قد يُفقد القرار الوطني استقلاليته.

الخاتمة
في عالم يتغير بسرعة، لم تعد الدول تُقاس فقط بثرواتها، بل بقدرتها على قراءة المشهد الدولي والتصرف بذكاء سياسي واقتصادي، فمشروع "الحزام والطريق" ليس مجرد خط نقل أو ميناء، بل إعادة رسم لخريطة النفوذ العالمي، كما أن الدول الغربية لم تنسحب، بل تُعيد صياغة أدواتها، وتتنافس هي الأخرى على الهيمنة الناعمة، كما أن العالم العربي أمام فرصة نادرة: أن يتحول من "ممر" إلى "فاعل"، من "ساحة تنافس" إلى "طرف يحدد الشروط".
لكن ذلك يتطلب، رؤية استراتيجية عربية موحدة؛ استقلال في القرار الاقتصادي؛ استثمار في الإنسان والتكنولوجيا والتعليم، وفي الطريق بين بكين وواشنطن، من يملك وعيه، قد يملك مستقبله.