آخر تحديث :الأحد-09 نوفمبر 2025-10:42م

مجلة جرهم


الطائرات المسيرة .. ملامح التهديد وتحديات الردع

الطائرات المسيرة .. ملامح التهديد وتحديات الردع

الأحد - 09 نوفمبر 2025 - 10:30 م بتوقيت عدن

- مجلة جرهم ــ عميد/ ماجد الجبلي ــ باحث عسكري متخصص في الطيران المسير - اليمن


لمحة تاريخية
مع التطور اللافت في وسائل القتال والاستطلاع منذ مطلع القرن العشرين، برز الطيران المسيّر –أو الطائرات بدون طيار– كأحد أهم الابتكارات التي أعادت تشكيل ملامح الحروب الحديثة.. لم تكن هذه التقنية وليدة اللحظة، بل بدأت بشكل متواضع خلال الحرب العالمية الأولى، حين جرت محاولات لاستخدام طائرات يتم توجيهها عن بعد لأغراض تدريبية وهجومية.
ونظرًا لتطور أنظمة الدفاع الجوي في ثلاثينات القرن العشرين، برزت الحاجة إلى أهداف جوية تُستخدم في تدريبات اعتراض الطائرات، وهو ما دفع بريطانيا إلى تطوير طائرات مسيّرة تُوجّه عن بُعد، عُرفت آنذاك باسم " Queen Bee "، وقد صُممت لتُستخدم كأهداف طيران تدريبية للقوات الجوية.. ليمثل هذا التطور البداية الحقيقية لعصر استخدام الطائرات بدون طيار في المجالات العسكرية، إلا أن استخدام تلك الطائرات كان غالبًا كأهداف تدريبية واستطلاعية، ولم تمنح دورًا قتاليًّا مباشرًا، باستثناء بعض الاستخدامات المحدودة التي شهدتها الحرب العالمية الثانية.
بقي استخدام هذه الطائرات على هذا الحال حتى بروز مشكلتي سقوط طائرة التجسس الأمريكية ( U2 ) عام 1960م على الأراضي الروسية، وكذلك أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، إلى جانب ارتفاع حدة الصراع مع الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، وهو ما استدعى إيقاف الولايات المتحدة الأمريكية لطائراتها التجسسية المأهولة، والاتجاه نحو تطوير واستخدام الطائرات بدون طيار لتدخل حيز التنفيذ الفعلي خلال حرب الخليج، إذ استخدمتها الولايات المتحدة لأغراض الاستطلاع فقط، بعد ذلك بدأت الطائرات المسيّرة تخرج من إطار التجارب العسكرية الاستطلاعية إلى ساحات المعارك الفعلية مدفوعة بتطور التكنولوجيا الرقمية وأنظمة الاتصالات، وهو ما شهدته الحرب على أفغانستان والعراق، حيث استُخدمت المسيّرات على نطاق واسع في مهام المراقبة والاغتيالات الدقيقة.
أما في العقد الأخير وحتى الآن، لم تعد الطائرات بدون طيار حكرًا على القوى الكبرى، بل أصبحت متاحة لعدد متزايد من الدول والجماعات المسلحة، ما حوّلها من أداة استخبارية إلى سلاح هجومي يشكل تهديدًا حقيقيًا للأمن الإقليمي والدولي.
ملامح التهديد
ومع تطور قدرات هذه الطائرات من حيث المدى والدقة والقدرة على التخفي، أصبحت الطائرات المسيرة حاليًّا من الأسلحة الأكثر فعالية في حسم المعارك بأقل الخسائر، نظرًا لقدراتها على إحداث أكبر تدمير مادي ومعنوي في الخصم بأقل التكاليف، ولقدرتها على القيام بتنفيذ مهام الاستطلاع بكافة أنواعه وتغلبها في الكثير من الأحيان على أنظمة الدفاع الجوي، إلى جانب قلة تكلفتها المالية وقدرتها على البقاء في الجو لفترات زمنية كبيرة وعلى ارتفاعات مختلفة، مع سهولة عملية إطلاقها وإدارتها.
ونظرًا لفعالية هذه الطائرات ودورها في حسم الكثير من المعارك الحديثة والاعتماد العسكري المتزايد عليها، فإن عملية امتلاكها والتسلح بها وإنتاجها وتطويرها صار من الأهمية بمكان في المشهد الأمني الإقليمي والعربي خصوصًا، ما جعل كثيرًا من الدول الفاعلة في الإقليم تهتم كثيرًا بحيازتها وتطويرها قدر الإمكان.. إلا أن امتلاك بعض الأنظمة لهذه الطائرات سهل وصولها إلى بعض الحركات المسلحة والجماعات الإرهابية في المنطقة، وجعلها محل تهديد واضح وخطير في المنطقة..
وبالإضافة إلى وجود التهديدات الناتجة عن وصول هذه التقنية الحديثة إلى أيدي الحركات الإرهابية في المنطقة، يبقى الخطر و التهديد الأكبر هو قدرة دول معادية على إنتاج الطائرات المسيرة وامتلاكها والتسلح بها, وعلى رأس هذه الدول إيران والكيان الصهيوني المحتل، حيث تعد هاتان الدولتان من أكثر دول العالم إنتاجًا للطائرات المسيرة وتسخيرها لمشاريعها التخريبية والتوسعية في المنطقة..
على سبيل المثال قامت إيران سواء عبر التهريب أو التسليح المباشر، بتزويد ودعم أذرعها في اليمن والعراق ولبنان وسورية وغيرها بأنواع مختلفة من هذه الطائرات، كما أن حصول منظمات إرهابية أخرى على هذا السلاح الفعال يعد تهديدا كبيرًا لدول المنطقة، من هذه الأنظمة الإرهابية : القاعدة وداعش وحركة الشباب في الصومال وغيرها.

نماذج واستهدافات
أدى امتلاك بعض الحركات المسلحة والجماعات الإرهابية للطائرات المسيّرة إلى تنفيذ العديد من الهجمات الإرهابية ضد أهداف مدنية وعسكرية ومنشآت حيوية في عدد من الدول، وهو ما أضاف بُعدًا جديدًا للتهديدات الأمنية في المنطقة، وفيما يلي نماذج متنوعة لتلك الاستهدافات:
تنفيذ الحوثيين -بدعم إيراني- هجومًا بطائرات مسيرة أدى إلى استهداف منشأتي "بقيق" و"خريص" النفطيتين في المملكة العربية السعودية (14 سبتمبر 2019)، مما أدى إلى بعض الأضرار وتوقف إنتاج النفط السعودي مؤقتًا.
نفذت جماعة الحوثي عدة هجمات بطائرات مسيّرة مفخخة استهدفت مطار أبها جنوب السعودية، خلال عامي (2019–2021) ، ما تسبب في إصابات بين المدنيين وأضرار في البنية التحتية للمطار.
قامت ميليشيات مدعومة من إيران، مثل "كتائب حزب الله"، باستخدام طائرات مسيّرة لمهاجمة واستهداف قاعدة "عين الأسد" التي تضم قوات أمريكية في العراق (يناير 2022).
اتهمت جماعات موالية لإيران بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي (7 نوفمبر 2021)، باستخدام طائرة مسيّرة مفخخة على مقر إقامته في المنطقة الخضراء ببغداد.
بتاريخ ٧- ٣- ٢٠٢١م استهداف إرهابي بطائرة مسيرة لمنشأة رأس تنورة النفطية بالمملكة العربية السعودية، حيث قامت حركة الحوثي الإرهابية بتبني الهجوم بينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بأن الهجوم انطلق من العراق.
بتاريخ ١٧ -١- ٢٠٢٢م قامت الحركة الإرهابية الحوثية باستهداف مطار أبو ظبي ومنطقة مصفح الصناعية في دولة الإمارات العربية بعدد ٣ طائرات مسيرة نتج عنه تدمير ٢ صهاريج نفطية ومقتل ٣ أشخاص.
قيام تنظيم القاعدة في اليمن بخمس هجمات بطائرات مسيرة ضد الجيش والأمن بمحافظة شبوة أولها بتاريخ ١٢- ٥- ٢٠٢٣ م، وفي العام ٢٠٢٤م قام تنظيم القاعدة باستهداف قوات مكافحة الإرهاب بمحافظة أبين بهجمات بطائرات مسيرة.
إلى ذلك استمرت الاستهدافات التي نفذتها جماعة الحوثي ضد الحكومة الشرعية بوتيرة عالية، وإذا ما اعتبرنا الاستهدافات لمواقع عسكرية في إطار المعركة القائمة، فإن الاستهدافات المتكررة لمنشآت حيوية ومدنية أكدت الفكر والسلوك الإرهابي لهذه الجماعة وخطورة التهديد الذي يمثله سلاح الطيران المسير بأيدي إرهابيين، ونذكر هنا بعض النماذج لتلك الاستهدافات:

ما بين عامي 2020-2022 نفذ الحوثيون هجمات متكررة بصواريخ وطائرات مسيرة استهدفت مطار عدن الدولي، أبرزها كان الهجوم في 30 ديسمبر 2020 أثناء وصول طائرة تقل أعضاء الحكومة الجديدة، ما أسفر عن سقوط أكثر من 20 قتيلًا.

في 11 سبتمبر 2021م هاجمت طائرات مسيّرة تابعة للحوثيين ميناء المخا بعد إعادة تشغيله من قِبل الحكومة اليمنية، ما أدى إلى أضرار كبيرة في البنية التحتية، مستودعات، وحرائق واسعة، وتوقف عمليات الإغاثة مؤقتًا.
تم استهداف محطة الكهرباء في مأرب عدة مرات كان أبرزها في مارس 2022م مما أدى إلى انقطاع التيار عن مناطق واسعة.
في 13 أبريل 2019 ، وأثناء انعقاد أول جلسة رسمية لمجلس النواب اليمني منذ الانقلاب الحوثي، في مدينة سيئون بمحافظة حضرموت، رصدت الدفاعات الجوية التابعة للتحالف العربي طائرات مسيّرة حوثية كانت في طريقها لاستهداف مقر انعقاد الجلسة وتم إسقاط الطائرة في محيط المدينة دون أن تُسجل أضرار أو إصابات.
خلال العام 2021 هاجمت طائرات مسيّرة حوثية مقر شركة صافر النفطية بمأرب.
وقد مثل استهداف ميناء الضبة النفطي بحضرموت 21 أكتوبر 2022م وميناء النشيمة في شبوة، أبرز وأخطر الهجمات الحوثية باستخدام الطائرات المسيّرة، لما تمثله من تهديد مباشر لعصب الاقتصاد اليمني ومصدر إيرادات الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا.
تعرضت اليمن لأول مرة لاستهدافات أمريكية وإسرائيلية على مناطق ومرافق حيوية متفرقة، نتيجة استمرار الحوثيين في عرقلة حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر تنفيذًا لأجندة إيران، عبر استهدافها بالطيران المسير حتى الآن.

الأثار المتعددة
الطائرات المسيّرة أصبحت أداة فعالة في يد الجماعات الإرهابية، وتُشكّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي. كما أن تأثيراتها الاقتصادية تتجاوز حدود المنطقة لتصيب الاقتصاد العالمي بالتقلب والاضطراب، خصوصًا في مجالات الطاقة والتجارة، حيث برزت من خلال نماذج الاستهدافات السابقة بالتطبيق على نموذج الحوثيين وجماعات إيران، كم هو حجم التهديدات والمخاطر التي يمثلها استخدام الطائرات المسيرة في استهداف المنشآت الاقتصادية الكبرى كالمطارات والموانئ والمنشآت الصناعية ومنشآت الطاقة.. إلى جانب التأثير على عمليات إنتاج النفط وسلسلة إمداداته ومنشآت تخزينه وموانئ تصديره.. والأبرز من ذلك كله استخدام طرق الملاحة الدولية كأداة ضغط وبؤرة توتر وتهديد لسلاسل التوريد وسفن النقل وما ينتج عنها من تأثيرات على اقتصاد بعض الدول كالتأثير الذي تعرضت له جمهورية مصر نتيجة تعطل قناة السويس بفعل الهجمات الحوثية على السفن التجارية في البحرين الأحمر والعربي.. الأمر يتطلب تعاونًا دوليًا وعربيًا حقيقيًا في تطوير الدفاعات التقنية، وتعزيز التعاون الاستخباراتي، وفرض قيود على تقنيات الطائرات المسيّرة ومنع وقوعها في الأيدي الخطأ.

تحديات الردع
توجد العديد من العوامل التي تتميز بها الطائرات المسيرة، وتسبب تحديًا حقيقيًّا لعملية ردعها ومجابهتها في الوقت الحاضر ومنها:
1-سهولة إنتاجها بكميات كبيرة وبتكاليف قليلة مما جعل من السهل امتلاكها والتسلح بها.
2-قدرتها على تجاوز أنظمة الدفاع الجوي نظرًا لصغر حجمها وقدرتها على الطيران المنخفض والتكلفة العالية للتعامل معها مقارنة بقيمتها.
3-سهولة عملية نقلها وتهريبها مما ساعد على وصولها للمنظمات الإرهابية والميليشيات والمخربين.
4-التطور المستمر الذي تشهده عملية إنتاجها من حيث المناورة وزيادة السرعة وقدرتها على تجاوز أنظمة الحرب الإلكترونية المختلفة .
5-تعدد الاستخدامات والمهام التي تنفذها، وكذلك إمكانية تسليحها وتحويلها إلى طائر متفجر في بعض الأحيان.
6-سهولة عملية إطلاقها باليد أو من منصات ثابته أو متحركة، وكذلك إمكانية إطلاقها من البر أو البحر أو الجو، وبساطة عملية إدارتها والسيطرة عليها .
7-صراع القوى العظمى وعمليات الاستقطاب العالمي للدول والمنظمات العابرة للحدود والمنظمات المحلية ساهم في عملية انتشارها ووصولها إلى كل مكان.
8-تحول هذا السلاح التقني المدمر إلى سلعة تجارية تباع وتشترى دون وجود قانون دولي منظم لعملية صناعتها أو انتشارها.
9-التنافس المحموم بين كافة الجيوش لإنتاج كميات كبيرة منها، وعملية تحديثها وتطويرها بصورة مستمرة ودائمة.

استراتيجيات المواجهة
توجد العديد من الاستراتيجيات التي تم استخدامها من قبل جيوش العالم في التعامل المحدود مع الهجمات بالطائرات المسيرة، وهو ما يجب الاستفادة منه للتعامل مع خطر وتهديدات الطيران المسير، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1-استخدام منظومات الدفاع الجوي التقليدية أو الحديثة، وهذه الاستراتيجية مفيدة إلى حدٍما للتعامل مع الطائرات المسيرة الكبيرة أو المتوسطة الحجم، ولكنها غير مجدية مع الطائرات المسيرة صغيرة الحجم والمتناهية الصغر .
2-مجابهة الطائرات المسيرة عبر استخدام منظومات الحرب الإلكترونية والأمن السيبراني.
3-استخدام المسدس الليزري الموجه.
4-استخدام الطيران العمودي لمناورتها وإسقاطها.
5-التصدي باستخدام الشباك التي يتم رميها من مسافات معينة فتعمل على السيطرة على الطائرات المسيرة وإسقاطها.


ولكن من وجهة نظري فإن أنسب استراتيجية لردع ومجابهة الطائرات المسيرة يتمثل في اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تعمل بشكل منسجم ومتكامل للوصول إلى تحقيق الهدف المتمثل في مجابهة الطيران المسير وتقليل آثاره وهي كالتالي :
•منع وصول هذه التقنية الحديثة إلى الأنظمة المتطرفة والحركات المسلحة والجماعات الإرهابية، من خلال الضغط لحرمانها من شرائها، وأيضًا من خلال إغلاق طرق تهريبها، وكذلك منعه من الحصول على قطع غيارها.
•تدمير أماكن إنتاجها وإطلاقها ومراكز تجميعها ومستودعات تخزينها .
•اتخاذ كافة إجراءات الدفاع الجوي السلبي والمتمثلة في إخفاء المواقع والمعدات والمنشآت وتمويهها واستخدام العواكس الركنية لمنع اكتشافها راداريًا.
•العمل الاستخباراتي بكافة صوره لمنع حصول العدو على المعلومات حول أهدافنا، وكذلك لكشف التهديدات المعادية والتعامل معها .
•نشر منظومات دفاع جوي وأنظمة حرب إلكترونية متطورة حول الأهداف والمواقع الاستراتيجية المراد حمايتها .
6- استخدام إجراءات الدفاع الجوي الإيجابي المباشر للتعامل مع الطائرات المسيرة في الجو باستخدام صواريخ الدفاع الجوي المحمولة كتفًا والمدافع الرشاشة والمسدس الليزري وشباك الإسقاط.
7-القيام بالهجمات السيبرانية وتفعيل أنظمة التشويش الحديثة، لتعطيل عملية إطلاق وإدارة الطيران المسير والسيطرة عليه في الجو.

ختامًا
من خلال ملامح السنوات الخمس الأخيرة، ونتيجة للتطورات المتسارعة في تقنيات الطيران المسير وأساليب وتكتيكات استخدامه المتجددة باستمرار، وبناء على نتائج الحروب الأخيرة كحرب الهند وباكستان وظهور فاعلية أنظمة التشويش والردع الباكستانية لإسقاط وتعطيل الطائرات المسيرة الإسرائيلية التي استخدمتها الهند في حربها، يبدو أن التهديدات الأمنية لاستخدامات الطيران المسير قد تتطور، وبالمقابل ستتطور معها أساليب الردع والمواجهة، وبناء على العلاقات المتوازنة للدول العربية الفاعلة والوازنة في الشرق الأوسط كدولة مصر والدول الخليجية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فإن من المتوقع أن تحجز هذه الدول مكانة متقدمة في مواجهة هذا الخطر المستمر.. ويبقى التساؤل: ما موقع اليمن في هذه المعادلة المعقدة؟!، وهو ما نتوقع أن تجيب عليه الأحداث التي نأمل أن تتسارع في اتجاه القضاء العسكري على جماعة الحوثيين الإرهابية وإزالة خطرها المتكرر ونزع السلاح واستعادة مؤسسات الدولة، الأمر الذي يجب أن يكون على سلم أولويات كافة الدول خلال الفترة المقبلة.